لعنة النزوح المزدوجة للسوريين في لبنان: قتل وليال في العراء

30 سبتمبر 2024
موجات النزوح متواصلة في لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- معاناة اللاجئين السوريين في لبنان: منذ 2011، يعاني اللاجئون السوريون من النزوح المستمر بسبب الحرب والكوارث الطبيعية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان زاد من معاناتهم.
- صعوبات النزوح والبحث عن مأوى: اللاجئون يواجهون صعوبات كبيرة في العثور على مأوى آمن، مع نقص في المساعدات الأساسية، ويعيشون في ظروف مزرية.
- قصص مؤلمة من النزوح: اللاجئون يروون قصصًا مؤلمة عن نزوحهم المتكرر ومعاناتهم اليومية، مع نقص في الغذاء والماء والاحتياجات الأساسية.

كأنه ممنوع على اللاجئين السوريين العيش بأمان. هؤلاء الذين غادروا سورية إلى لبنان هرباً من الحرب، لحق بهم العدوان الإسرائيلي، إلا أن مراكز الإيواء لم تستقبلهم، فالأولوية للبنانيين.

منذ اعتمد النظام السوري الخيار الدموي لإخماد الثورة السورية عام 2011، ومرارة النزوح والتهجير لا تفارق السوريين، بدءاً من قراهم وبلداتهم وصولاً إلى المخيمات في لبنان، بالإضافة إلى حرائق وفيضانات وكوارث طبيعية تهجّرهم بين الحين والآخر من خيمة إلى أخرى ومن مخيم لآخر. لم يكن ينقصهم سوى النزوح مجدّداً من بلدات ومدن الجنوب اللبناني ومن الضاحية الجنوبية لبيروت وقرى بعلبك والهرمل والبقاع الغربي، إثر العدوان الإسرائيلي.
ويعاني اللاجئون السوريون في لبنان منذ اشتداد العدوان والغارات الإسرائيلية، حيث لاقى الكثير منهم حتفه، أسوة بالمواطنين اللبنانيين. وكشفت إحصاءات المرصد السوري لحقوق الإنسان لغاية يوم الأحد، أن عدد الشهداء السوريين في لبنان ارتفع منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة إلى 165، بينهم 31 امرأة و43 طفلاً، بالإضافة إلى إصابة 21 آخرين. وكانت لجنة الطوارئ الحكومية في لبنان قد أعلنت يوم الأحد سقوط 1640 شهيداً و8408 جرحى منذ بدء المواجهات في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مع الإشارة إلى أنه لا يزال هناك شهداء تحت الركام ومفقودون وأشلاء. 

دفع القصف اللاجئين السوريين إلى الهروب سيراً على الأقدام

مجدّداً، دفعت لعنة الحرب والقصف والإجرام اللاجئين السوريين إلى الهروب من الموت سيراً على الأقدام أو بواسطة السيارات وشتى وسائل النقل المتوفرة، بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ، فكان أن علقوا مثل المواطنين اللبنانيين في زحمة سير خانقة، يوم الاثنين الماضي، مع بدء موجة النزوح الكبيرة. غير أن المفارقة كانت برفض المدارس الرسمية اللبنانية استقبالهم، باعتبار أن الأولوية للنازحين اللبنانيّين، ما دفع بالعديد منهم إلى قضاء ليلة أو أكثر في العراء، ريثما يحظون بخيمة تؤويهم وعائلاتهم وأطفالهم.
وكان مركز "وصول" لحقوق الإنسان (مركز معني بقضايا اللاجئين السوريين)، قد أدان، يوم الخميس، الغارات الجوية الإسرائيلية على لبنان، التي أدت إلى "مقتل أكثر من 500 مدني، بينهم 56 لاجئاً سورياً"، ودعا إلى "تحرك دولي فوري".
رحلة شاقة قطعها شاويش أحد مخيمات اللاجئين السوريين في بلدة تمنين (البقاع)، نحو بلدة مكسة (البقاع الأوسط). عبد الله أحمد الوهاب (50 عاماً)، هرع، ليل الاثنين، مع عائلته وأحفاده إلى الكروم والبساتين، هرباً من القصف الإسرائيلي العنيف، بعدما أصيبت خيامهم بالشظايا، ويقول لـ"العربي الجديد": "لم ننم تلك الليلة، ولم نتمكن من مغادرة المخيم حتى بزوغ فجر يوم الثلاثاء. فقد ابني وعيه على وقع صراخ النساء وبكاء الأطفال، فسارعنا إلى دوّار مدينة زحلة (البقاع الأوسط)، حيث أقدم أحد النافذين في المنطقة على طردنا، مستعيناً بالبلدية التي هدّدتنا بضرورة الرحيل وإلا سيتم توقيفنا".

إيجاد مكان في مدارس الإيواء غاية في الصعوبة (حسين بيضون)
إيجاد مكان في مدارس الإيواء غاية في الصعوبة (حسين بيضون)

بلوعةٍ يسرد عذاب النزوح الثاني بعدما ترك مدينة الطبقة (محافظة الرقة)، قادماً إلى لبنان برفقة عائلته عام 2014. يتابع: "توجهنا من دوّار زحلة إلى مدرسة العمرية في بلدة الفيضة (البقاع)، غير أن مختار البلدة طردنا وهدّدنا بالعصا وبمجموعة شبّان جاهزين لتكسير سيارتنا. فكان أن قصدنا مدرسة الكويت الرسمية في بلدة الفاعور (البقاع الأوسط)، ووصلنا عند الساعة التاسعة ليلاً. المعاناة والحجّة ذاتها. رفضوا استقبالنا باعتبار أن الدولة اللبنانية فتحت المدارس مراكز إيواء للنازحين اللبنانيين وليس للاجئين السوريين. وبعد جدل ومفاوضات، وافق رئيس البلدية على أن نقضي ليلتنا في المدرسة، بشرط المغادرة في الصباح الباكر. ويوم الأربعاء، توجّهنا إلى مركز المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في زحلة، وحوّلونا إلى مدرسة مخصّصة للسوريين في بلدة مكسة".
الوهاب، الذي يصف وضع اللاجئين في هذه المدرسة بـ"المزري والسيئ جدّاً"، يتحسر على "المعاملة اللاإنسانية، حيث تغصّ المدرسة بالعائلات السورية اللاجئة (نحو 120 نازحاً)، وتفتقر لأبسط المساعدات الحيوية، علماً أن الحاجات كبيرة ومتزايدة، فقد خرجنا بثيابنا ولم نحمل معنا أي شيء". يضيف: "كرامتنا تُهان ونتعرض للحرمان والإذلال، وضعونا عشرين شخصاً في غرفة واحدة وسلّمونا أربع فرش فقط لكل تسعة أشخاص. لم توزع البطانيات ولا الحليب ولا الحفاضات ولا ثياب الأطفال. خزان المياه صغير جدّاً، ولا إمكانية لأي نظافة شخصية. فنحن سبع عائلات نزحنا من مخيم تمنين 005، أي قرابة 52 شخصاً، بالإضافة إلى عشر عائلات موجودة في المدرسة، ما يفاقم الأزمة".
شاويش المخيم والأب لخمسة أولاد تعاني زوجته الأربعينية من مرض السرطان ولا يمكنها الحصول على أدويتها، ويقول: "زوجتي لها الله، فلا إمكانية لدفع كلفة الأدوية"، ويتحسر على حاله وحال ابنه وبناته وأحفاده بعد التشرد من المخيم، مردّداً: "حفيدتي الأولى بعمر سنة وحفيدي لم يتجاوز الشهرين، وابنتي الأخرى حامل بشهرها الثامن. ولا يقدمون لنا سوى وجبة واحدة عبارة عن أرز مطبوخ فقط، لا فطور ولا عشاء، وفقط مياه للشرب والقليل من البسكويت والعصير للأولاد".

لا مكان لنازحين جدد في مدارس الإيواء (حسين بيضون)
اكتظت مدارس الإيواء بالنازحين (حسين بيضون)

ويتحدث عن خلاف وقع في المدرسة بين شقيقه وأولاد عمه، ما دفع مديرة المدرسة إلى طرده مع زوجته وأطفاله الثلاثة. يتابع: "عاد مع عائلته ووالدته السبعينية إلى المخيم، حيث القصف وخطر الموت. أولاده كانوا يبكون ويرتجفون، وقد أعود بدوري للبقاء إلى جانبهم، فروحي ليست أغلى من أرواحهم"، ويأسف لكون "الفقير أينما ذهب لا أحد يريده. كثيرون من اللاجئين السوريين ينامون في الشوارع، من بينهم بنات أختي، فالوضع مأساوي ومفوضية الأمم المتحدة اكتفت بالقول: دبروا حالكم لنرى ماذا سيحصل خلال اليومين المقبلين". الوهاب، الذي كان يعمل في الزراعة، يكشف حجم الاستغلال الذي يتعرضون له، حيث تكبدوا كلفة كبيرة للوصول إلى المدرسة، حتى أن كلفة النقل إلى سورية تقارب 150 دولاراً أميركيّاً لكل شخص، بالإضافة إلى 100 دولار أميركي عن كل شخص، تقتطعها السلطات السورية عند الحدود" (أوقفت حكومة النظام العمل بهذا الشرط لمدة أسبوع، يوم الأحد).
سميرة بعريني (أم عماد)، المقيمة في بلدة العبدة (شمال البلاد)، استقبلت أولاد عمها النازحين من مدينة الصرفند (جنوباً)، والذين وصلوا بعد يومين من المعاناة، تقول لـ"العربي الجديد": "انفطرت قلوبهم وبدت علامات التعب والإرهاق على وجوههم. هم سبع عائلات سورية، حيث كان يعمل الرجال في البناء والباطون والزراعة في جنوب لبنان، وكل واحد منهم أب لأربعة أو خمسة أولاد. استقبلتُ من ضمنهم عائلتين، كون منزلي المستأجر لا يتّسع لأكثر، فقد صرنا 15 شخصاً في البيت ذاته، في حين توزّع الآخرون بين مدينة طرابلس ومخيم البداوي (شمالاً)".
وتسرد كيف أن "أولاد عمها اضطروا للهرب من القصف سيراً على الأقدام من مدينة الصرفند إلى مدينة صيدا، برفقة أطفالهم وأهلهم الكبار في السن". تضيف: "تكبدوا كلفة كبيرة للانتقال من صيدا إلى عكار ومن ثم إلى العبدة، حيث قصدوني مباشرة، كون المدارس الرسمية ترفض استقبال النازحين السوريين، كما أن عودتهم إلى سورية محفوفة بالمخاطر كونهم مطلوبين من قبل النظام السوري. والمشهد المؤلم تكرّر عند دوّار العبدة حيث تجمّع العديد من السوريين العاجزين عن إيجاد مأوى. اتصلتُ بإحدى الجمعيات الخيرية لمساعدتي في استئجار منزل وتأمين دوائي المزمن، ولتقديم المساندة للاجئين السوريين (الجُدد)، غير أن الجواب كان واضحاً: لا مساعدات ولا إمكانيات". أم عماد، اللاجئة منذ عام 2013 من مدينة حمص، تعمل في تنظيف المنازل، وتشكو قسوة الزمن عليها وعلى تلك العائلات السورية "التي اضطرت للنزوح مجدّداً، تاركة خلفها أبسط مقتنياتها، حتى أن رب العمل نزح بدوره ولم يتقاضَ العمّال رواتبهم هذا الشهر".

نازحون يتناولون الطعام المقدم لهم في إحدى المدارس (حسين بيضون)
توفير الطعام اليومي أزمة كبيرة يعيشها النازح (حسين بيضون)

يقضي اللاجئ السوري علي حسين ليلته في العراء برفقة زوجته فاطمة وأطفاله الأربعة، أكبرهم بعمر سبع سنوات وأصغرهم لم يتجاوز السنة. حسين، المقيم في مخيم للاجئين السوريين في مدينة بعلبك، يروي لـ"العربي الجديد"، بؤس الحال، ويقول: "غالبية سكان المخيم هربوا من القصف والصواريخ إلى مخيمات آمنة في بلدة عرسال (الحدودية مع سورية)، أو إلى شمال لبنان، ولم يعد في المخيم سوى خمس عائلات من أصل ثلاثين عائلة. حال العائلات الصامدة مثل حالي، لا قدرات مادية للنزوح من جديد، ولا نملك السيارات ولا ثمن أجرة النقل، ولا يمكننا العودة إلى سورية". ويستطرد بالقول: "أعيش منذ يوم الاثنين بين المخيم والبساتين، فالقصف عنيف جدّاً، لا نستطيع النوم ويبدأ الأطفال بالصراخ والبكاء، ما دفعني إلى البساتين رغم البرد والظلام، باعتبار أن قضاء الليل تحت الأشجار بعيداً عن المنازل يبقى أكثر أمناً من المخيم الذي أعود إليه صباحاً".
حسين، اللاجئ من بلدة الرقة السورية منذ عام 2011، يسأل: "كيف لا نخاف على أولادنا، لكن إلى أين نلجأ؟ لقد نجونا من الموت في سورية بعدما دمّر منزلنا، وشاء القدر أن نعيش المأساة ورعب القصف والدمار مجدّداً في لبنان. كنت أعمل في البناء والباطون، قبل أن تتأزم الأوضاع في لبنان، واليوم لا قدرة لنا على شراء الحليب والحفاضات للأطفال ولا شيء. أما الخبز فمقطوع ولا يوجد لدينا سوى المياه للشرب والأرز الذي نطبخه لسد جوعنا، وبالطبع لا كهرباء فنستعين بالشموع ليلاً. ولا أعلم كيف سنلبّي متطلبات التدفئة عندما يشتد الصقيع". ويختم بالقول: "أتمنى أن تتوقف كل هذه الحروب الوحشية وأن نعود إلى ديارنا".

سبع عائلات سورية نزحت ظهر يوم الاثنين الماضي من مدينة صور (جنوباً)، إلى صيدا، ومن ثم إلى بيروت وصولاً إلى مدينة طرابلس (شمالاً)، ومن بعدها إلى بلدة المنية. ساعات عصيبة قضتها تلك العائلات المؤلفة من 35 لاجئاً سوريّاً، حيث يتحدث اللاجئ زعيم الهلال، عن حجم العذاب، ويقول لـ"العربي الجديد": "وصلنا عند الرابعة من فجر الثلاثاء إلى بلدة المنية، ونمنا داخل السيارات، فما من أحد نعرفه هناك ولم نجد من يساعدنا من جمعيات. ومع صباح يوم الثلاثاء قصدنا المدارس، فلم يستقبلنا أحد بذريعة أن الأفضلية للبنانيين. تعب والدي ولم يعد يقوى على البقاء في الشارع، فهو مسنّ ومريض يشكو من داء السكري وارتفاع ضغط الدم، وكان قد خضع أخيراً لعملية جراحية، ونسينا أدويته في الجنوب، فاتصلت بأحد أصدقائي في بلدة الكويخات (عكار)، الذي دبّر لنا خيمة في مشروعٍ زراعي، ونحن قرابة 17 شخصاً نقيم فيها".
الهلال، اللاجئ الثلاثيني من مدينة حمص والمقيم في لبنان منذ عام 2013، يقول: "مجدّداً كان قدرنا النزوح، واضطر أولاد عمي للنوم ليلتين في الشارع، قبل أن يجدوا خيمة في بلدة تل عباس (شمالاً). كنا نعمل في البناء والباطون والزراعة، وضعنا المادي تعيس، ونعيش من دون أي مساعدات تُذكر، لولا ما قدمه لنا بعض الجيران من فرش وبطانيات وغاز صغير لإعداد بعض الطعام. لا نريد شيئاً سوى العودة لديارنا".
من ناحيته، محمد علي أحمد، اللاجئ من إدلب منذ عامين، يوضح أنه كان يقيم مع خمسة عمّال سوريين في بلدة الغازية (جنوباً)، قبل أن يضطر للحاق بأهله المقيمين في أحد مخيمات بلدة ديرزنون (البقاع). الشاب العشريني يأسف لتدهور الأحوال في لبنان، ويتمنى ألا "يختبر السوريون المزيد من التهجير واللجوء". وكذلك اللاجئة السورية أم وليد كانت مقيمة في الجنوب قبل أن تضطر للنزوح إلى عكار برفقة أطفالها الأربعة.
ووفق التقديرات الحكومية، يعيش في لبنان قرابة 1.5 مليون لاجئ سوري، نحو 90% منهم بحالة الفقر المدقع، بحسب ما أوردته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

المساهمون