عامٌ مرّ على انفجار مرفأ بيروت من دون أن تحصل عائلات كثيرة على تعويضات مادية أو مساعدات طبية لاستكمال علاجها، وإن كان كلّ ما سبق لن يلغي حجم الألم والضرر النفسي الذي قد يلاحقها مدى الحياة.
بُترت قدم اللبناني أيوب، وهو أب لأربعة أولاد من جراء إصابته بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب 2020، وباتت طلباته تنحصر بثلاجة وفرن غازٍ وأدوات منزلية دمّرت بالكامل، هو الذي يقطن في منطقة الخندق الغميق في العاصمة بيروت، وهي قريبة من موقع الانفجار.
طُرد أيوب من عمله كسائق خاص لإحدى العائلات بعد سنوات من الخدمة بسبب إصابة قدمه الثانية بشللٍ نصفيّ. لم يحصل على أيّ تعويضات، كما يتكبّد مصاريف العلاج وشراء 7 إلى 8 أصناف من الأدوية هي أصلاً غير متوفرة في الصيدليات.
يقول أيوب لـ"العربي الجديد": "دمّرت حياتي بالكامل. لا أقوى على الحركة. نأكل وجبة واحدة يومياً، ونعيش في عتمة شبه دائمة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي". أحياناً، يزوده جاره بخط كهرباء يتيح له إضاءة لمبة. يأسف لأنّه يعيش في بلدٍ تغيب عنه أبسط حقوق العيش بكرامة، خصوصاً بالنسبة لكبار السن والعاجزين عن العمل.
من جهة أخرى، خسر مؤيد إبراهيم الجاسم العبيد، وهو سوري الجنسية يعمل في ورش البناء في لبنان منذ 8 أعوام، شقيقه في الانفجار الذي رزقت زوجته بطفلتهما وتين، بعد مقتله بستّة أيامٍ. يتحدث لـ "العربي الجديد" عن رحلة البحث عن شقيقه في ذلك اليوم قائلاً: "تنقلت من مستشفى إلى آخر، ورحت أبحث بين الجثث وفي ثلاجات المستشفيات، إلى أن وجدته في مستشفى الرسول الأعظم وقد توفي نتيجة إصابته بنزيف دماغي". ويقول مؤيد: "كان شقيقي يعمل في خدمة توصيل الطعام، ولم تحصل عائلته على أية تعويضات من الدولة اللبنانية، والأسوأ أنّ كلّ أوراقه الثبوتية ومحفظته وإفادة العمل سُرقت منه بينما كان ينازع بين الحياة والموت في الميدان". يتابع: "نقلناه إلى سورية حيث دفن وواجهنا الكثير من الصعوبات خلال نقله، عدا عن التكاليف الباهظة".
يأسف مؤيد للتمييز الذي يمارس بحق الأجانب على الرغم من علمه أنّ المواطن اللبناني لم يحصل على حقه أيضاً. كما يتوقف عند اقتراح القانون الذي تقدّم به النائب جورج عطالله، والذي طلب فيه استثناء غير اللبنانيين من التعويضات، مع الإشارة إلى أنّ هذه الخطوة عرّضت النائب إلى حملة هجوم واستنكار من اللبنانيين الذين دعوا إلى المساواة بين الضحايا وعائلاتهم والمتضررين كافة.
من جهته، يقول المحامي طارق الحجار، والذي يتولى الادعاء عن المتضررين الأجانب من الفئات المهمشة، ويتابع الملف مع جمعية "رواد الحقوق" لـ"العربي الجديد" أنّ هناك مساعدات أقرت للأجانب من قبل الهيئة العليا للإغاثة، وهي عبارة عن مبلغ ثلاثين مليون ليرة لبنانية (نحو 1500 دولار بحسب سعر الصرف في السوق السوداء) كمبلغ مقطوع وليس على شكل تعويض أو طبابة أو استشفاء، عدا عن مساعدات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية. لكنّ المشكلة أنّها تحتاج إلى مستندات صعبة جداً ومكلفة بالنسبة للأجانب، خصوصاً أنّها تدفع بالدولار الأميركي. وفي النتيجة، يحتاج هؤلاء إلى وقتٍ طويل للحصول على المساعدات بعد الانتهاء من الإجراءات المعقدة.
يشير الحجار إلى أنّ بعض العائلات حصلت على مساعدات وأخرى ما زالت تجهز المستندات. وهناك قسم من الأجانب لا يعرف ما يجب أن يفعله أو ما إذا كان يحق له الحصول على مساعدات "ونحن نساعدهم على صعيد الجمعية لتقديم مستنداتهم"، لافتاً إلى أنّ "المتضررين الأجانب والمتوفين يتخطون السبعين شخصاً، وغالبيتهم من السوريين، بالإضافة إلى مصريين وإثيوبيين وجنسيات أخرى".
وتولى الجيش اللبناني مهمة توزيع المساعدات بمبلغ تعويضات حدد بـ 150 مليار ليرة لبنانية خصّص للأضرار التي لحقت بالمنازل من دون أن تشمل أضرار السيارات وغير ذلك، وكانت الأولوية في توزيع المبالغ للوحدات السكنية الواقعة ضمن المناطق الأكثر قرباً من الانفجار والمصنفة متوسطة وما دون المتوسطة.
واستجاب الصليب الأحمر اللبناني لدعم العائلات المتضررة الأكثر ضعفاً، وقدم دعماً مالياً طارئاً ومباشراً لـ 10 آلاف عائلة على الأقل، وتضمن الدعم الطارئ لمرة واحدة مبلغ 300 دولار لكل عائلة متضررة لتأمين الحاجات الأساسية ومبلغ 600 دولار مقدم من الصليب الأحمر اللبناني أو شركائه لعائلات تعرّضت منازلها لأضرار من أجل تصليحها.
في هذا السياق، تقول المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، رونا الحلبي، لـ"العربي الجديد" إنّ الصليب الأحمر استجاب على ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى (الأشهر الثلاثة الأولى التي تلت الانفجار) كانت تتعلق بالأمور الطارئة، وتشمل الحاجات الملحة والضرورية للعيش مثل توزيع وجبات طعام ومواد النظافة الشخصية ومأوى ومنامة في إطار تعاوني بين الصليب الأحمر اللبناني ومنظمات عدّة. كما تضمنت الإسعافات الأولية وتقديم معدات ومستلزمات طبية ومساعدة المستشفيات، بالإضافة إلى إسعافات طوارئ لمراكز الجيش ومراكز الرعاية الصحية الأولية، عدا عن الدعم الذي قدم لأشخاص تضرروا جسدياً ونفسياً.
وتضمنت المرحلة الثانية التعافي، بحسب الحلبي، ثم الدعم الاقتصادي. وتركزت بداية على الطعام وأدوات النظافة التي شملت أكثر من 30 ألف عائلة "وبدأنا نظام مساعدات مالية لـ 1500 عائلة لشراء الحاجيات الأساسية. وتضمن ذلك مبلغاً مالياً بالدولار الأميركي لكلّ عائلة ولمرة واحدة، وتم رصد الحالات المتوسطة وبعيدة المدى، وكان هناك خط ساخن للتواصل مع الأشخاص الذين دخلوا المستشفى وجرى التأكد من تلقيهم الرعاية وما إذا كانوا بحاجة إلى دعم نفسي، ويستمر 185 مريضاً في تلقي العلاج النفسي والفيزيائي". كذلك، شملت المساعدات 50 مؤسسة تصنف بـ "الصغيرة"، تضررت من جراء الانفجار، لتصليح محالهم وإعادة فتحها.
من جهتها، تقول المعمارية ومديرة الأبحاث في "استوديو أشغال عامة" (مؤسسة أبحاث مستقلة) عبير سقسوق، لـ"العربي الجديد" إنّه "ما من أرقام دقيقة حتى اليوم حول نسبة المنازل التي تضررت وجرى ترميمها. لكن في بحث عن عينة من 150 منزلاً، تبين أنّ نصفهم لم ترمَّم بشكل نهائي. أما المنازل التي دمرت بالكامل، فلم يصر إلى إعادة ترميمها أو إعمارها". تشير سقسوق إلى أنّ الخلل الأكبر يكمن في النسيج الاجتماعي، إذ إنّ نسبة كبيرة من المواطنين والعائلات لم تعد إلى منازلها ومناطق سكنها، وهناك إحصائيات تفيد بأنّ سبعين في المائة تقريباً من الناس اضطروا إلى ترك منازلهم بشكل كامل، عدا عن غياب أيّ نوع من الحماية السكنية التي دفعت الناس إلى ترك منازلهم أو إخلائها نتيجة عدم قدرة المستأجرين على دفع بدل الإيجار في ظل موجة الغلاء، والتي استغلها البعض لطرد المستأجرين، عدا عن المضاربات العقارية التي طاولت المناطق المتضررة بشكل خاص. وعلى الرغم من صدور القانون رقم 194 الرامي إلى حماية المناطق المتضررة نتيجة انفجار مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بيد أنّ اللجنة المفترض بها رفع الأضرار وتقييمها وتوزيع التعويضات العادلة والشاملة لم تشكل حتى اليوم، تقول سقسوق. وتلفت إلى أنّ القانون أتى ليكرس تغييب الناس عن النقاش حول إعادة إحياء مناطقهم وقضايا أخرى تتعلق بحقوقهم وحياتهم، كما افتقد إلى سياسة أو رؤية حول إعادة الإعمار معتمداً مقاربة تصبّ في مصلحة المستثمرين وتخلو من الشقين الاقتصادي والاجتماعي.
في السياق نفسه، تقول نادين بكداش، من مرصد السكن في "استوديو أشغال عامة" إنّ "بيروت لم تكن في حالة جيدة حتى قبل الانفجار، إذ إنّ المباني التاريخية كانت مهملة والمضاربة العقارية بأوجها والناس يهجّرون من منازلهم وأحيائهم بسبب غياب السياسات التي تحمي الحق بالسكن وتنظم استخدامات الأراضي للمصلحة العامة بدلاً من التجارة". وتشير إلى أنّ "الانفجار فاقم هذه الأزمة، وبعض الناس لم يعودوا إلى منازلهم وسط استغلال كبير للانفجار من أجل تشريد المواطنين بهدف المضاربة العقارية". تضيف: "نتيجة التفجير بدأت عملية اقتطاع جزءٍ كبير من أحياء بيروت عمرانياً واجتماعياً واقتصادياً وحقوقياً عن باقي المدينة. ومنذ الرابع من أغسطس 2020، يتم تغييب الناس وسكان الأحياء المتضررة بصورة خاصة عن مواضيع كثيرة تتعلق بحياتهم، حتى أنّهم مغيبون عن النقاش في إعادة تأهيل أحيائهم وإمكانيات ترميم بيوتهم، ويتم التعاطي معهم بالمنطق الفردي لا الجماعي، ما جعلهم مهددين أكثر من أيّ وقتٍ مضى بالتهجير الدائم". وتلفت إلى أنّ "السلطات والأجهزة الأمنية لم تؤمن السكن البديل ما ترك السكان الذين فقدوا منازلهم عرضة للتشرد".