في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وصفت وزيرة الداخلية البريطانية من أصول مهاجرة سويلا برافرمان اللاجئين إلى المملكة المتحدة بـ "الغزاة"، متجاهلة حقيقة أن معظم المهاجرين عبر قوارب صغيرة حطّت بهم على الشواطئ البريطانية، كانوا قد هربوا من جحيم الحروب في بلدانهم والصراعات السياسية والخوف والدمار والسجن والتعذيب والموت. وتراجع الاهتمام بملفّ الهجرة الذي دفع غالبية الناخبين البريطانيين للتصويت على خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي قبل ستّ سنوات، خلال السنتين الأخيرتين بحسب استطلاعات الرأي، كما تراجع الخوف من الهجرة والمهاجرين في البلد الذي وصل إليه هذا العام أكثر من 40 ألف مهاجر ولم تسوّ أوضاعهم بعد. يُذكر أيضاً أن مركز مانستون في منطقة كينت (كان قاعدة عسكرية سابقة في كنت، وافتتح لاستقبال ومعالجة قضايا اللاجئين الجدد في فبراير/ شباط الماضي بعد تنامي أعداد المهاجرين)، قد أعاد الحديث عن هذا الملف مع تصاعد حدّة الاتّهامات والانتقادات ضدّ برافرمان بسبب الاكتظاظ الشديد الذي شهده المركز وما زال، وسط تفشٍّ للأمراض المعدية.
والتقت "العربي الجديد" أحد اللاجئين الذين وصلوا خلال العام الماضي إلى بريطانيا بعد رحلة استغرقت ستة أشهر برّاً وبحراً وجوّاً. يقول م.ن. إن المرء يحتاج داخل بلده سورية إلى ضعف عدد المهرّبين الذي سيحتاج إليه في المسافة المتبقية من تركيا إلى أي بلد أوروبي. فسورية باتت أرضاً مقسّمة بآلاف الحواجز والسلطات والمرجعيات والكتائب والفصائل. والخروج منها يحتاج إلى "قلب قوي وهاتف وآلاف الدولارات". لكنك أيضاً ستحتاج إلى انتماء معيّن وهوية "نظيفة". كل المدن السورية الثائرة في كفّة ودرعا وحدها في كفّة أخرى. درعا التي يقول الثوّار إن "البشائر هلّت منها"، يرى النظام فيها نقطة التحوّل التي ستغيّر قدره إلى الأبد. كان م.ن. في الرابعة عشرة عندما انطلقت الثورة. تشكّل وعيه مع حواجز عديدة نبتت في مدينته وعبثت بالجغرافيا التي ألفها خلال طفولته. ترك المدرسة لأن "مدارس درعا لم تعد مكاناً آمناً للطلاب، إذ تقتحم الحصص المدرسية من قبل جيش النظام ويتم ترهيب الطلاب واعتقالهم واعتقال الأساتذة أيضاً".
ويروي م.ن. كيف اعتقل والده في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013 بتهمة التعاون مع "الإرهابيين". استُدعي إلى أحد الفروع الأمنية التابعة للأمن العسكري في درعا، ومنذ ذلك الحين "لم يرجع ولا نعرف عنه شيئاً". مع اعتقال والده، كبر م.ن. فجأة. وكأن لحظة الاعتقال منحته عشر سنوات إضافية نضج خلالها وبات معيل أسرته والمسؤول عن أمانها. اختفى والده والخبر الوحيد الذي عبر آذانهم بعد سنة واحدة من اعتقاله هو أنه مسجون في صيدنايا وأن ساقه مبتورة من التعذيب. كانت تلك هي المرة الأولى التي سيكتشف فيها م.ن. أن نبأ الموت يكون أحياناً مشتهى وأقل وطأة من نبأ تعرّض من نحبّ إلى التعذيب.
خسارات
بعد عام، أصيب أخوه الأكبر بطلق ناري بالقرب من أحد الحواجز في طريقه إلى البيت. أُسعِف لكن وضعه الصحي تدهور فجأة ودخل في غيبوبة. وقال الأطباء إنه يحتاج إلى تصوير مقطعي لمعرفة مكان النزيف، لكن كل المستشفيات في درعا والمناطق المحيطة لا تحتوي على جهاز واحد للتصوير المقطعي. قرّروا العبور به إلى الأردن، إلا أن ضبّاط الحدود لم يسمحوا لهم بالعبور ذلك اليوم. "كنّا نتفرّج عليه ينازع أمام أعيننا ولا نستطيع إنقاذه". توفّي تلك الليلة بسبب نزيف داخلي.
بعد شهر من وفاة الأخ الأكبر، اعتقل الأخ الأوسط الذي يكبر م.ن. بسنتين من مسكنه الجامعي في دمشق حيث كان يدرس. التهمة المعلنة دائماً هي "التعاون مع الإرهابيين والقتال إلى جانب الجيش الحرّ"، أما التهمة غير المعلنة فهي "الانتماء إلى درعا"، مهد الثورة. يروي م.ن. قصّته وصوته يتهدّج رويداً رويداً مع كل فقد وكل محنة. يحكي كيف صاروا يبحثون عنه كمن يبحث عمّا تبقّى له في هذه الحياة. لن تحتمل والدته فقداً إضافياً، هي التي لم تستوعب بعد اختفاء زوجها ووفاة ابنها البكر. علمت العائلة أن ابنها الأوسط في سجن "صيدنايا". شقّت الأمّ طريقها محمّلة بالملابس والأكل لكنهم صادروا كل ما تحمله قبل أن تعبر إلى الفسحة الكبيرة حيث سيضيق بها المكان خلف حاجز شبكي في انتظار أن تلمح "نور عينيها". يقول م.ن. إنها لو لم تكن أمّه، لما تعرّفت إليه وإلى ملامحه وقد استحال "هيكلاً عظمياً" من التعذيب والتجويع والترهيب.
تقف الأم خلف جدار من الشبك يطلّ على ممرّ ضيّق يتمشّى فيه أحد الضباط مراقباً تلك الزيارات. ثم حائط آخر من الشبك أيضاً يقف وراءه المعتقلون "للقاء" ذويهم. لا يفهم م.ن. كيف يمكن لهذه الزيارات أن تكون "لقاءً" هي التي تجري من خلف سياجين، حيث تضلّ حاسة الشمّ طريقها أيضاً وليس فقط حاسة اللمس. كما أن الزيارة لا تتجاوز مدّتها الدقائق الثلاث. زارته الأم مرة ثانية مع أن الزيارة كانت بمثابة تعذيب إضافي بالنسبة إلى المعتقل الذي تعرّض لضرب مبرح قبل كل زيارة وبعدها، كما يجرّب فيه السجّانون كل أنواع التعذيب من التشبيح إلى الدولاب والصعق بالكهرباء. وفي الزيارة الثالثة، قالوا لأمه ببساطة ودون المزيد من التفسير والشرح إن "ابنها لم يعد موجوداً". انهارت الأم وراح خيالها يوجعها في القفز بين الاحتمالات التي قد تبدأ بالموت تحت التعذيب ولا تنتهي في حرمان ابنها من الزيارة واحتجازه في سجن أبدي وتعذيب متواصل. الفقد الذي عاشته أمّه هو ما دفعه للهرب خارج سورية. "أن أتركها وحدها أرحم من أن أزيد خسارتها وتفقدني إلى الأبد". يقول م.ن. إن النظام الذي هزّت الثورة "أبده" أراد لشعبه أن يعيش هذا "الأبد" في عذاباته وخساراته.
الوقت يمر ببطء
رحل م.ن. من مدينته مع أحد المهرّبين إلى حلب ومنها إلى إدلب حيث كانت فرقة الحمزة (الحمزات - فرقة عسكرية معارضة للنظام السوري) بانتظارهم. هناك سارا في وادِ سحيق لخمس ساعات قبل أن يعترض طريقهم مسلّحون ويبدأ إطلاق الرصاص بشكل عشوائي. لا يعرف م.ن. هوية المسلحين أو إلى أي جهة سورية يتبعون. سقط من سقط من القتلى، بينما ألقي القبض على الناجين واقتيدوا إلى فرع تابع للأمن العسكري في حلب. هناك فصلوا بين النساء والأطفال وبين الرجال. لكنهم فصلوا أيضاً بين الرجال وبين م.ن. الذي سيلقى معاملة خاصة بسبب انتمائه إلى درعا. اعتباراً من هذه اللحظة، حرص م.ن. خلال حديثه على التدليل على الزمن بدقة لامتناهية، فيصير الوقت أياماً وساعات ودقائق. بعد ثمانية أيام من الضرب والإهانات نُقل إلى فرع المنطقة 227 في العاصمة دمشق، حيث ضُرب حتى الإغماء، ولا تهمة واضحة موجّهة إليه إلا أنه يواجه كل التهم في الوقت ذاته. وأمضى هناك 20 يوماً أصرّ الضابط خلالها على انتزاع "الاعترافات" منه عن أمور لم يرتكبها، لكنه رفض. أمره الضابط بالاستلقاء على الأرض وراح يدعس على رأسه ويضربه بخرطوم ماء أخضر يطلقون عليه إسم "الأخضر الإبراهيمي". ثم تم نقله إلى فرع فلسطين حيث لا يمتلك المعتقل أو الموقوف اسماً، بل رقماً. أمضى م.ن. الخمسين يوماً الأولى بدون أي استدعاء إلى التحقيق. كان ينام مع 92 آخرين في غرفة مربعة بطول 4 أمتار وعرض 4 أمتار. وأحياناً يصل الرقم إلى 200. وفي اليوم الـ 51، اقتادوه إلى التحقيق. أجلسوه على الأرض ووجهه إلى الحائط، كل من يدخل غرفة التحقيق أو يخرج منها يرفسه على رأسه. مدّدوه على الأرض هناك أيضاً، راح الضابط يمشي فوقه ويدهس رأسه بحذائه العسكري. والأسئلة ذاتها تتكرّر، إلا أنها تزيد كل مرة مع الانتقال إلى فرع جديد. علّقوه من معصميه ولاتزال آثار الأصفاد تحفّ جلده حتى هذه اللحظة. صعقوه بالكهرباء وشتموا أمّه وأخته وعائلته ومدينته. التقى م.ن. هناك برجل حلبي عمره 67 عاماً، مضى على وجوده في السجن خمس سنوات وخمسة أشهر وعشرة أيام. في أحد الصباحات، طلب منه الرجل الستيني أن يمسّد له صدره وقلبه لأنه متعب. ثم فجأة غابت عينا الرجل وراح ينازع. يحكي م.ن. كيف اندفع مع الآخرين باتجاه باب المهجع وصاروا يطرقونه صارخين بأن هناك رجلاً ينازع. إلا أن السجّان شتمهم وشتم أهاليهم وتوعّد بعقابهم أشدّ عقاب لو طرقوا الباب مجدداً قبل أن يموت الرجل نهائياً. "بعد ساعة من المنازعة، قلنا له إن الرجل مات. أعطانا بطانية لنلفّه بها ورماه في الممرّ". يقول م.ن. إنه في تلك اللحظة تحديداً تمنّى لو أنه "وُلد كلباً أو حيواناً" كي لا يتعرّض لكل هذه التجارب والمحن والعذابات.
الأيام الأخيرة
بعد مرور 65 يوماً، اقتادوه إلى تحقيق جديد. مدّده الضابط على لوح خشبي متحرّك مثبتاً يديه وقدميه، وراح يلوي اللوح سعياً لكسر ظهره. "لم يستطع كسر ظهري"، يكتفي م.ن. بقول هذه الجملة، مضيفاً أنه كان متعباً ومريضا. وفي اليوم الـ103، اقتادوه إلى الشرطة العسكرية في منطقة "القابون" ومنها إلى فرع "سعسع" في القنيطرة حيث أمضى 5 أيام قبل أن يدفع من تبقى من عائلته أموالاً طائلة والكثير من الوساطات لإخراجه حياً. بعدها بأسبوع، قرر م.ن. خوض رحلة الهرب من جديد لكن المهرّب اختار هذه المرة طريقاً آخر عبر حلب وعفرين ومنها إلى أعزاز وكلّس ثم إلى إسطنبول حيث أمضى خمسة أشهر في محاولات متكررة للعبور، بينما يتقاذفه هو وغيره من الهاربين خفر السواحل اليونانيون والأتراك إلى أن استطاع العبور من اليونان إلى صربيا إلى هنغاريا إلى ألمانيا إلى النمسا ثم إلى فرنسا لـ "يغزو" أخيراً شواطئ بريطانيا قبل عام.