بعد مرور نحو قرن ونصف القرن على إنشاء مبناها الأصلي في موسكو تخليداً لعيد النصر على القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت في عام 1812، لم تعد كاتدرائية المسيح المخلص الكائنة على ضفاف نهر موسكفا وسط العاصمة الروسية مجرد موقع لأداء القداسات الأرثوذكسية، بل تحولت إلى أحد أبرز رموز موسكو وروسيا ما بعد السوفييتية.
تعود شهرة كاتدرائية المسيح المخلص وأهميتها التاريخية إلى تفجيرها في عهد جوزيف ستالين، في ظل إعلان الإلحاد أيديولوجيا رسمية للدولة السوفييتية، وإقامة مسبح في مكانها، قبل أن تبدأ أعمال بنائها من جديد في تسعينيات القرن الماضي.
في هذا الإطار، يلفت مدير مكتب "راديوس" للرحلات في موسكو والمؤرخ والمرشد السياحي، أنطون لاتينين، إلى أن تاريخ الكنيسة حافل، بدءاً بالصعوبات التي تخللت عملية بنائها في القرن الـ19، ثم تفجيرها، وصولاً إلى إعادة بنائها.
ويقول لاتينين لـ"العربي الجديد": "المبنى الحالي للكنيسة هو الثاني لها، في وقت بني الأول في القرن الـ19 بعد تعهد الإمبراطور ألكسندر الأول ببناء كنيسة تخليداً للنصر على الفرنسيين، حتى تكون رمزاً له. وكان من المخطط أصلاً بناء الكنيسة في منطقة تلال فوروبييفي بالقرب من الموقع الحالي لجامعة موسكو الحكومية. لكن عملية البناء لم تذهب أبعد من إنشاء الأساسات بسبب مخاطر انهيار التربة، وقد أهدرت أموال كثيرة فيها".
أساطير كثيرة ارتبطت بالعملية المتعثرة لبناء الكنيسة، ومنها اختيار الإمبراطور الجديد نيقولاي الأول الموقع الحالي لبناء الكاتدرائية وهدم دير "أليكسييفسكي"، ولعنة المشرفة على الدير. هنا، يقول لاتينين: "صحيح أن هذه مجرد أسطورة، ولكن أعمال البناء التي بدأت في عهد نيقولاي الأول لم تكتمل إلا في زمن حفيده ألكسندر الثالث، إذ تم تكريس الكنيسة في عام 1883. وفي عام 1931، فجرت بقرار من القيادة السوفييتية، وكأن اللعنة تحققت ولم يدم عمر الكنيسة لأكثر من نصف قرن".
وكان من المقرّر أن يبنى محل الكاتدرائية برج "قصر السوفييت" الذي ضم تصميمه أكثر من مائة طابق بارتفاع ثلاثة أضعاف هرم خوفو في الجيزة بمصر مع تتويجه بتمثال لزعيم ثورة البلاشفة في عام 1917، فلاديمير لينين، ليشكل رمزاً لحلول عهد جديد.
إلا أن مبنى البرج الذي استغرقت أعمال الحفر ووضع الأساسات له سبع سنوات، لم ير النور بسبب اللعنة، وفق ما يوضحه لاتينين، قائلاً: "كان من المقرر أن يبلغ ارتفاع البرج 400 متر، وليس هناك مبنى في موسكو بهذا الارتفاع حتى اليوم، حتى تم افتتاح محطة المترو "قصر السوفييت" واسمها الحالي كروبوتكينسكايا. وحال بدء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) دون مواصلة أعمال البناء، فتم إنشاء مسبح مفتوح عمل على مدار السنة".
ومع تولي آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، زمام السلطة في البلاد واعتماده برنامج الإصلاحات "بيريسترويكا"، بدأت منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي تتعالى الأصوات المنادية لإعادة بناء الكاتدرائية. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، انطلقت حملة جمع التبرعات وأعمال البناء. ومن العوامل التي ساهمت في سرعة جمع التبرعات اللازمة لبناء الكاتدرائية، تقديم حكومة الرئيس الراحل بوريس يلتسين، تسهيلات ضرائبية هامة للمتبرعين.
ويعلق لاتينين على رمزية الدعوات لإعادة بناء الكاتدرائية في السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي، بالقول: "بدأ عهد جديد في تاريخ روسيا، وتوجه العديد من الناشطين والشخصيات العامة نحو التدين على سبيل معارضة النظام السوفييتي وكرّس تكريم الكنيسة رمزياً في عام 2000، إذ تسنى بناؤها في أقل من عشر سنوات بفضل تكنولوجيات جديدة للبناء واستخدام الخرسانة المسلحة. وفي محيط الكنيسة، تم إنشاء جسر للمشاة لتتحول المنطقة إلى أحد رموز موسكو".
وتظهر استطلاعات رأي أن سكان موسكو وضيوفها يعتبرون كاتدرائية المسيح المخلص أحد أبرز معالم العاصمة إلى جانب الكرملين والساحة والحمراء ومعرض "تريتياكوفسكايا" وغيرها. كما تحولت الكاتدرائية إلى جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والسياسية لروسيا، إذ تقام فيها القداسات الرئيسية في عيدي الميلاد والقيامة.
وفي عام 2012، تحولت الكاتدرائية إلى مسرح لفضيحة سياسية كبرى. وسجلت خمس مشاركات ملثمات بفرقة "بوسي ريوت" فيها أغنية طلبن في جوقتها من السيدة العذراء إقصاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأثارت ملاحقة المغنيات واعتقالهن صدى مجتمعياً كبيراً في روسيا بين من رأى في تصرفهن إهانة للمقدسات المسيحية وآخرين ربطوا ملاحقتهن بدوافع سياسية.