صمت مطبق يسود البطريركية المارونية في لبنان منذ إصدار محكمة الجنايات في كاين، غربيّ فرنسا، مساء الاثنين الماضي، عقوبة السجن مدة 15 عاماً بحق الكاهن اللبناني المونسنيور منصور لبكي، بعد إدانته غيابياً بتهم اغتصاب أطفالٍ والاعتداء عليهم جنسياً.
ويكتفي مصدر مقرّب من البطريرك الماروني بشارة الراعي بالقول، لـ "العربي الجديد"، إن "البطريرك لا يتساهل أبداً في كل القضايا التي تصب في خانة التحرّش والاعتداء الجنسي، ولن يتدخل في عمل القضاء، وسيطلع حتماً على الحيثيات والمستندات المتصلة بالقضية".
واعتُبِرَت البطريركية المارونية من المدافعين عن لبكي في المراحل السابقة، واضعةً ما يتعرّض له في خانة حملات الافتراء الممولة ضد الكنيسة، وهو سيناريو اعتمدته أيضاً وسائل إعلام لبنانية للوقوف إلى جانب الكاهن، وصل الأمر ببعضها إلى تلميع صورته والاعتذار منه لما تحمّل من "مهانة في الحملة الجائرة التي خيضت ضده".
ودعا ناشطون إلى محاسبة لبكي عن أفعاله والاعتداءات الوحشية التي مارسها بحق ضحايا قاصرات، رافعين الصوت في وجه الكنيسة المارونية لعدم وضع أي حصانة عليه وتغطيته للإفلات من المساءلة والعقاب، وخصوصاً بعدما امتنع لبنان عام 2016 عن تسليم المونسنيور، الذي يحاكم غيابياً في فرنسا على الرغم من صدور مذكرة توقيف دولية تطالب بتسليمه لمحاكمته على الأراضي الفرنسية. فكما ترسم السلطة السياسية خطوطاً حمراء على المسؤولين السياسيين والأمنيين، وهو ما يحصل أخيراً في ملف انفجار مرفأ بيروت، تتصرف المرجعيات الدينية بالمثل بحق المسؤولين ضمن رعيتها، سواء كانوا مصرفيين أو أمنيين أو عسكريين أو سياسيين أو رجال دين".
من الناحية القانونية، تقول المتخصصة في القانون الكنسي الدكتورة لورات جورج وهبة، لـ"العربي الجديد"، إن "المرجع الصالح في القضايا التي تتعلق بأعمال يرتكبها الكهنة هو القضاء الكنسي، ومجمع عقيدة الإيمان في الفاتيكان هو المرجعية التي تبتّ في القضايا اللاهوتية والأخلاقية، من ضمنها الاعتداء الجنسي كقضية الأب لبكي، والذي على أساسه تتخذ الكنيسة موقفها والقرارات اللازمة بحق الكاهن".
وتوضح وهبة أنه "عندما تصل شكاوى إلى الكنيسة الكاثوليكية تختص بأعمال يرتكبها الكهنة ورجال الدين، تتوسّع بالتحقيق وترسل علماً وخبراً إلى مجمع عقيدة الإيمان المختص، وتتابع بعدها الإجراءات الكنسية والإدارية، مع العلم أن المحاكمات تكون سرية وقد تأخذ منحى إدارياً كما حصل بدعوى الأب لبكي"، لافتة إلى أنّه "خلال المحاكمات الكنسية السرية، وفي حال صدور قرار، لا يمكن للمتهم استلام الحكم، بل فقط الاطلاع عليه".
وتلفت وهبة إلى أن "الكنيسة لا تغطي الاعتداءات الجنسية أو تخفيها أو تتستّر على مرتكبيها، وهي تطبق القوانين وتلتزم بها كونها تابعة للكرسي الرسولي، والأب لبكي ملتزم بنصّ الحكم الصادر عن المجمع وينفذ الإقامة الجبرية، وتوقف عن ممارسة الإرشادات الروحية وتقديم أي توجيه روحي للأشخاص أو إحياء القداديس أو التحدث إلى الضحايا والمدّعين والاتصال بالقاصرين، وغير ذلك".
وراعى المجمع سن لبكي (81 عاماً)، وحكم عليه عام 2013، بعدما ثبت اعتداؤه جنسياً على قاصرات، بعقوبة حياة من الصلاة والتكفير عن الذنب في مكان منعزل، وهو ينفذ الحكم في دير راهبات الصليب في قرية برمانا (قضاء المتن في محافظة جبل لبنان)، والحرمان من المناصب الكنسية. وتلفت إلى أنه "لا صلاحية للكنيسة الكاثوليكية بتسليم لبكي، فالإجراء يكون بين الدولتين الفرنسية واللبنانية، وهو شأنٌ خاص، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سجنه. فالقضاء الكنسي لا يملك هذه السلطة، بيد أن التدابير الكنسية متخذه وتتبع تعاليم الكرسي الرسولي، والتي تكون خارج دائرة العقوبات الجزائية".
من جهته، يقول المحامي لؤي غندور لـ"العربي الجديد": "عندما تصدر أي دولة بلاغ بحث وتحر أو مذكرة توقيف دولية، عليها أن تبلغ لبنان عبر شعبة الاتصال الدولي في قوى الأمن الداخلي، كونها على اتصالٍ مباشر بالنيابة العامة التمييزية". يضيف: "عندما يأتي طلب استرداد بحق مواطن لبناني، على النيابة العامة أن تطلب الملف أولاً من الدولة طالبة الاسترداد، ولكن عادةً لا يتم تسليم اللبنانيين، بل محاكمتهم في لبنان. وبالتالي، على النيابة العامة في حال رفضت الاسترداد، وهذا حقها الطبيعي، طلب الملف واتخاذ الإجراءات القانونية لمعاقبة الفاعل أو المجرم، كي لا يتسنّى له الهروب والإفلات من العقاب، وذلك طبعاً في حال كان الجرم الملاحق به يعاقب عليه قانون العقوبات اللبناني".
ويردف غندور قائلاً: "هذه هي الموجبات القانونية، ولكن القضاء لا يتحرك في لبنان عند وجود ضغوط سياسية أو ملفات ترتبط بشؤون الطوائف".
بدوره، يقول رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر، لـ"العربي الجديد"، إن "قضية لبكي تظهر طريقة تعاطي الحكومة اللبنانية والمنظومة عامةً مع قضايا التحرش الجنسي، وخصوصاً بحق الأطفال، عندما يكون الشخص المرتكب المجرم شخصية معروفة وكنسية". ويشير إلى أن "الأزمة تعود إلى سنوات خلت، عندما صدر أول قرار كنسي فاتيكاني بعزل الأب لبكي في ديرٍ ومنعه من الاقتراب من الأطفال وإقامة القداديس وغير ذلك. وبدلاً من أن يباشر القضاء اللبناني بالتحقيق للتأكد من صحة المعلومات ومتابعة الملف بأكمله وملاحقة المرتكب قانونياً وجزائياً، اهتمّ بملاحقة كل من كان يثير القضية في لبنان، وجرى حذف موقع إلكتروني يخصّ قضية لبكي، وقد تواطأت الحكومة مع بعض موزعي خدمات الإنترنت في لبنان لسرقة إسم النطاق (Domain Name). فعندما يصار إلى البحث عن مواضيع تخص الكاهن تظهر أكاذيب".
يتابع الأسمر أن "لبنان رفض تسليم لبكي في الماضي، كما لم يسمح لقاضٍ فرنسي جاء إلى لبنان لمتابعة القضية باستجواب الكاهن. كما أن الحماية الكبيرة التي استفاد منها خرجت عن لسان رجال دين بما يتعارض مع الفاتيكان الذي أدانه، وأقرّ بثلاثة إدعاءات ضده. كما أن الضغوط التي فرضت من أصدقاء لبكي وغيرهم هي ما حال دون ملاحقته".
ويشدد الأسمر على أن "النقطة الأساسية تتخطى لبكي، إذ تفتح النقاش في لبنان حول التحرش الجنسي وجرائم الاغتصاب التي تحصل خلف الأبواب الموصدة، وخصوصاً في دور الأيتام والرعاية والمدارس الدينية التي يسيطر عليها رجال دين مهما كانت طائفتهم. ونأمل أن تكون قضية لبكي مناسبة للكلام عن هذه القضايا، إذ نتفهم الضحايا عندما يرون ردود الفعل من المجتمع المخملي اللبناني، وخصوصاً عندما يذهب البعض للدفاع عن شخص متهم باغتصاب أطفال. واليوم، أتحفنا أحد رجال الكهنة بهجومه على ما أسماه القضاء الملحد، علماً أن هذا أمر طبيعي. فالقضاء يجب أن يكون في خدمة الناس لا في مصلحة أي أيديولوجية".
ووجه الأسمر نداءً إلى الكنيسة والمؤسسات الدينية لتضع الآليات المناسبة لحماية الأطفال الذين هم في عهدتها، وأن تحذو حذو الفاتيكان؛ فالبابا فرنسيس نفسه اعتذر عن الإساءة إلى الطفولة عبر التحرش الذي كان يتعرض له الأطفال الذين وقعوا ضحية رجال دين كاثوليك.