ظهر الشاي، أو "أتاي" كما يطلق عليه شعبياً في المغرب، في البداية كمنتج أجنبي دخل إلى البلاد في سياق هدايا إلى السلاطين وكبار رجال الدولة في مطلع القرن الثامن عشر، وظلّ استخدامه محدوداً كدواء لفترة، قبل أن يبدأ استهلاكه كمشروب، ثم يتحول بمرور السنوات إلى رمز للضيافة والكرم المغربي.
تضاربت الآراء حول البداية الحقيقية لوجود "أتاي" في المغرب، وإن كانت جلّ الكتابات تُرجّح أنه حدث في عهد مولاي إسماعيل، في أواخر القرن السابع عشر، وكان جزءا من هدايا إلى الحاكم وكبار رجال الدولة، واستمر هذا حتى منتصف القرن التاسع عشر.
بدأ استهلاك "أتاي" في المغرب في إطار ضيق، اقتصر في البداية على السلطان وحاشيته، إذ كان الحصول عليه، إلى جانب السكر، يأتي من القناصل والسفراء والتجار على سبيل الهدية، بينما لم يكن يُشرب في البوادي حتى مطلع القرن العشرين إلا في المناسبات، لكنه أصبح لاحقاً عادة يومية واسعة الانتشار.
وفق كتاب "من الشاي إلى الأتاي... العادة والتاريخ" للمؤرخين المغربيين عبد الأحد السبتي وعبد الرحمن الخصاصي، فإن المغاربة تعرّفوا على الشاي عن طريق الإنكليز، إذ كان يُستخدم في البداية كدواء، قبل أن يعتمد كمشروب يومي، ويفيدان بأن أول من شربه هو زيدان بن إسماعيل، عمّ السلطان العلوي محمد بن عبد الله، وذلك بعد إصابته بالمرض نتيجة إفراطه في تناول الخمر، فتمكن طبيب من مداواته باستخدام مشروب "الأتاي".
ويؤكد رحالة أجانب أن الإنكليز كانوا أول من أدخلوا الشاي إلى المغرب، فحين زار السفير الإنكليزي شارل ستيوارت البلاد في عام 1721، قدّم لحاكم مدينة تطوان ومرافقيه الحلويات والشاي، ومنح سفير إنكليزي آخر في سنة 1727، حاكم تطوان رطلين من الشاي وأربعة أقراص من السكر، وكان من جملة الهدايا التي حملها السفير إلى السلطان صندوقان يحتويان على أربع عشرة قطعة من السكر الملكي، وصندوق صغير يحتوي على ثمانية عشر رطلاً من أتاي، ثم تواصلت عملية جلب السفارات للسكر والشاي ضمن الهدايا إلى البلاط، ما يدل على أنهما كانا يعتبران من الهدايا الفاخرة.
لاحقاً، شكل الشاي والسكر جانباً من الهدايا المتبادلة بين علية القوم، وبسبب الأهمية المتزايدة له، مع السكر، أضحت السلطات "المخزن" تحتكر جلبه وتسويقه لمدة طويلة، قبل أن يشق طريقه نحو عامة الناس.
عرف المشروب الجديد انتشاراً تدريجياً في أواسط القرن التاسع عشر في الوسط الحضري، ثم توسع انتشاره ليمتد إلى البوادي المجاورة للحواضر، وفي الفترة بين 1880 إلى 1892، شمل مختلف البوادي المغربية، لكن اللافت حسب المؤرخين والباحثين أن الشاي لم يصبح في متناول عامة الناس إلا في أربعينيات القرن العشرين.
وسجل الرحالة والقناصل الأوروبيون إقبال المغاربة على استهلاك الشاي، إذ قال الجاسوس الإسباني دومينيغو باديا، والمعروف باسم "علي باي العباسي"، إنه ليس هناك مسلم مغربي متوسط الحال لا يتوفر في داره الشاي لتقديمه في كل أوقات النهار للضيوف، ولاحظ الرحالة شارل دي فوكو، إقبال المغاربة الكبير على الشاي مقارنة بالقهوة، وانتشاره في مناطق نائية مثل طاطا وتازناخت.
تزايد اهتمام المغاربة بالشاي والسكر مع دخول البلاد تحت الحماية الفرنسية، وتفيد بعض الإحصاءات بأن استهلاك الشخص الواحد من الشاي سنوياً بلغ 800 غرام في سنة 1926، وتزايد بعد الحرب العالمية الثانية إلى نحو 1.2 كلغ في سنة 1949، ثم إلى 1.75 كلغ في سنة 1953.
لكن تزايد أهمية الشاي، والإقبال المتزايد عليه في المغرب، فتح باب السجال حول التحريم والإباحة، خاصة أنه ليس مجرد مشروب عادي، بل هو منبّه، ويرتبط تناوله بطقوس خاصة، وهناك مؤشرات تدل على أن جلسة الشاي كانت في مستواها الطقوسي امتدادا لجلسات الخمر.
من هذا المنطلق، ظلت بعض الشخصيات الدينية تعارض استهلاكه بسبب تأثيره السلبي على الإمكانيات المالية للأفراد، أو لكونه مادة غير طاهرة بالمفهوم الشرعي، كما ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم الشاي لأنه يشبه الخمر في هيئته وآنيته، وأنه يشغل الناس عن العبادة، ويضر بالأجسام، فيما خالفهم آخرون أكدوا أنه حلال، ودعوا إلى الاستمتاع بالمشروب الجديد كبديل عن الخمر.
وخلال فترة الجدل، ظهر كتاب بعنوان "الآي في تحريم الآتاي"، وورد عن الفقيه محمد البيشروي أنه نبّه من شرب الأتاي لأنه يشبه الخمر، كما أن قاضي مكناس، أحمد بن عبد الملك العلوي، كان لا يقبل شهادة شارب الشاي.
بدوره، حذّر الفقيه الشنقيطي، أحمد حامد بن محمد بن مختار الله، من الأتاي، وقال في إحدى فتاويه إنه نادم على شربه، وإنه حرام، واعتبره من باب الهوى والنفس والشيطان، داعياً إلى تركه لصون المال وراحة النفس، ووصف الإقبال عليه بأنه "يؤدي إلى ضياع المال، وضياع المال حرام، وما يؤدي إلى الحرام حرام"، كما أنه يشغل الناس عن الصلاة حتى يفوت وقتها المختار، و"أن الناس يشربونه على الريق، وذلك يؤدي إلى ضرر ينالهم في الجوف لصعوبة هضمه"، وأضاف أن "أول من شربه كان يشرب الخمر، وامتنع عن تركه، ولم تنفع فيه الأسباب، فلما صنع له الأتاي ترك، فهذا يدل على أنه يشابه الخمر".
في المقابل، اعتبر الفقيه محمد حبيب الله بن مايابي الجكني أن شرب الشاي حلال، وأضاف: "يتضح أن الهيئة لا تكون علة في تحريمه، كما أن شربه لا يسكر، وليس فيه إضاعة للمال". ودافع الأديب والفقيه حمدون بن الحاج عن الشاي، وشجع على احتسائه قائلاً: "إيَّاكَ إِيَّاكَ أن تَرتاحَ لِلرَّاحِ. وَادفَع مُديِرَ كُؤُؤسِ الرَّاحِ بِالرَّاحِ. ومِل إِلَى شُربِ آتايٍ تَرُوقُ بِهَا. وَلَيسَ يُعقَبُ شُربُهَا بِأترَاحِ".
ومما جاء في كتاب "طرائف الأدب" عن إسحاق ديزرائيلي: "لقد انتشر الشاي بطريقة تذكر بطريقة انتشار الحقيقة. في البداية، كان المشروب الجديد موضوع تشكك عند البعض، ولم يعرف لذته سوى من تجرأ على تذوقه. وتمت مقاطعته في الوقت الذي عرف فيه طريقه إلى الاستقرار، وطعن فيه البعض في الوقت الذي اتسعت فيه شهرته. انتصر الشاي في النهاية بفضل مزاياه الخاصة، ومفعول الزمن الذي لا يقاوم".
مع مرور السنوات، اختفت الأصوات التي عارضت استهلاك الشاي، وصار هذا المشروب "إدماناً" لدى المغاربة، يحتسونه في كل الفصول والمناسبات، بل بات جزءا من الهوية المغربية بطقوسه وعاداته ومذاقه ورائحته التي لا تقاوم، وجلسته التي تجمع الأحباب، وتكرم الضيوف، وتعد فرصة للاجتماع والحديث.
وفتحت جلسات الشاي قريحة الشعراء والأدباء والموسيقيين، وظهر في القصائد والأغاني بالفصحى والعامية والأمازيغية، ولعل أشهر ما يذكر أغنية "الصينية" لمجموعة "ناس الغيوان" الرائدة، والتي وظفت صينية الشاي كاستعارة للتحسر على ضياع قيمة العشيرة والجماعة وما يرافقهما من أنس وتعاضد وتآزر.
وبفضل الأهمية التي يكتسيها الشاي، خصصت الأمم المتحدة يوم 21 مايو/أيار من كل عام يوماً دولياً للاحتفاء به، بوصفه أكثر المشروبات استهلاكا في العالم بعد الماء، وأنه مصدر رزق أساسي لملايين الأسر الفقيرة التي تعيش في البلدان الأقل نمواً، كما أن له أهمية ثقافية في العديد من المجتمعات، ومن بينها المغرب الذي يحتفي بـ "أتاي" كمشروب لا يضاهيه أي شراب آخر في الرمزية والدلالة والحضور.
ويُراد باختيار هذا اليوم زيادة الوعي بالتاريخ الطويل، والأهمية الثقافية والاقتصادية العميقة للشاي في جميع أنحاء العالم، وأيضا ترويج وتعزيز الإجراءات الجماعية لتنفيذ الأنشطة لصالح الإنتاج والاستهلاك المستدامين للشاي.