لطالما استمع الفلسطيني إبراهيم مقداد إلى حكايات جدته حول تفاصيل النكبة الفلسطينية في عام 1948، حين هُجرت عائلتها قسراً من بلدة حمامة المُحتلة، على أيدي العصابات الصهيونية التي ارتكبت الكثير من الفظائع، لكن مقداد يُعاني حالياً تفاصيل مشابهة بعد نزوحه مع أسرته قسراً نحو المنطقة الوسطى من قطاع غزة بفعل العدوان الإسرائيلي.
نزحت مئات آلاف الأُسر الفلسطينية من مُحافظتي غزة والشمال، نحو المُحافظات الجنوبية، ثم من خانيونس نحو مدينة رفح، ومن مُخيمي البريج والنصيرات نحو مدينة دير البلح، تاركين بيوتهم غصباً بعد أن تم تدميرها، وارتقاء عدد من أفراد أُسرهم شهداء، أو إصابتهم، إلى جانب تهديدات الإخلاء الإسرائيلية المُتواصلة التي تطاول مناطق بأكملها.
ويُعاني نحو 1,8 مليون فلسطيني من مُختلف مُحافظات قطاع غزة من ظروف النزوح القاسية ضمن سياسة التهجير القسري الإسرائيلية الممنهجة، والتي تضع النازحين بين لهيب العدوان المتواصل، وبين نار الحنين للرجوع إلى بيوتهم ومناطق سكنهم، حتى وإن كانت قد استحالت أكواماً من الرُكام.
يقول إبراهيم مقداد لـ "العربي الجديد"، إنه ترك منطقته في مُخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين غربي مدينة غزة قبيل استهدافها من الطائرات الحربية الإسرائيلية، وفقد عدداً من أقاربه وجيرانه وأصدقائه في هذا القصف، وقد نزح برفقة أسرته إلى منطقة الزوايدة في وسط قطاع غزة، بحثاً عن مكان آمن "على الرغم من عدم وجود أماكن آمنة في أي من مناطق القطاع".
يلفت مقداد إلى أن مرارة النزوح والتهجير فاقت كل ما كان يتخيله حين سماع حديث جدته عن مرارة النكبة الفلسطينية، والتي دفعت أجداده إلى ترك أراضيهم الزراعية وبيوتهم الآمِنة، ويقول: "لم أكن مُقتنعا أن هناك أسبابا يُمكن أن تدفع الشخص إلى ترك كل أملاكه، لكن المجازر والأحداث المجنونة المُتصاعدة من حولنا جعلتني أدرك ذلك بعد أن رأيت الموت بعيني مرات عدة".
وعلى الرغم من التدمير الواسع الذي طاول نحو ثُلثي قطاع غزة، إلا أن مقداد لم يعُد يحتمل الانتظار، ويرغب في الرجوع إلى منطقته التي اعتاد على تفاصيل حياته اليومية فيها، والتي كان شاطئ البحر جزءا منها، وهو يشعر أن أسابيع الحرب التي حالت بينه وبينها أشبه بسنوات طويلة وثقيلة.
نزح الفلسطيني علي السيقلي من منطقة الشجاعية شرقي مدينة غزة، ويقول إنه ترك منطقته بفعل التهديدات الإسرائيلية بضرورة الإخلاء الكامل لمدينة غزة، والتوجه نحو جنوب الوادي، وأن هذا النزوح يعتبر التجربة الأقسى عليه وعلى أسرته.
يوضح السيقلي لـ "العربي الجديد"، أنه كان يشعر بمُعاناة الهِجرة التي لطالما حدثه عنها والده المهجر قسراً من مدينة المجدل، إلا أنه لم يكن يتخيل أنه سيعيشها، وبهذا الشكل العنيف، إذ يتم تهجير أهالي قطاع غزة على وقع مجازر لا تتوقف مُنذ بداية العدوان قبل أكثر من ثمانين يوماً.
لا يُخفي السيقلي شوقه الكبير للعودة إلى الحي الذي نشأ فيه، ويقول: "أُدرك أن انتهاء الحرب، وعودة كُل شيء إلى ما كان عليه مسألة وقت، لكنني لم أعد أطيق الانتظار أكثر من ذلك، خاصة في ظل الصعوبات التي نلاقيها حالياً، والحياة المأساوية التي نعيشها في مراكز اللجوء، والتي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الآدمية".
ينشغل الفلسطيني صبحي سالم من منطقة النصر بوسط مدينة غزة، بالاستماع إلى النشرات الإخبارية عبر جهاز راديو صغير، على أمل سماع أي خبر يفيد برجوع النازحين إلى بيوتهم، حتى وإن كانت مُدمرة، ويقول إن "خيمة قُماشية فوق بيتي المدمر أفضل من استمرار النزوح في المناطق الجنوبية، أو الاضطرار إلى التهجير إلى أي مكان في العالم".
يضيف سالم لـ"العربي الجديد": "ما نعيشه حالياً جعلني أدرك أسباب الحرقة التي كان يحدثني بها جدي عن النكبة، فقد ترك أملاكه في مدينة هربيا المُحتلة بفعل المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية. حالياً يملأ الحنين قلبي إلى بيتي بعد أسابيع من تركه، وأفكر أحياناً في الرجوع إليه مهما كانت العواقب، لكني أتراجع عن ذلك حفاظاً على حياة أطفالي".
ولا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي تسيطر على الشوارع الرئيسية التي تفصل شمالي القطاع ووسطه عن جنوبه، وتمنع عودة النازحين إلى بيوتهم بعد امتثالهم للتهديدات التي طالبتهم بالإخلاء نحو المناطق الجنوبية، منذ اليوم السابع للعدوان، رغم أنهم يعيشون في ظل أوضاع صعبة تنعدم فيها متطلباتهم الأساسية، وفي مقدمتها المأكل والمشرب والرعاية الصحية والمسكن الآمن.