في وقت تغرق أحياء في مدينة اللاذقية في فقر مدقع، ويعيش سكانها حرماناً كبيراً من الماء والكهرباء، تشتعل أحياء أخرى في المدينة ليلاً بحفلات السهر، ما يكرّس اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء في المدينة، ويؤكد تزايد الشرخ الاجتماعي وسط تجاهل الأحياء الفقيرة وتهميشها.
يقارن أبو يوسف الجبلاوي، الناطق باسم لجان التنسيق المحلية في مدينة جبلة، في حديثه لـ "العربي الجديد"، بين حيّين في مدينة اللاذقية ينال أحدهما خدمات أفضل بسبب نفوذ سكانه وسطوتهم، في مقابل إدراك سكان الحي الثاني بالكاد لقمة عيشهم وسط صعوبات حياتية كثيرة. ويقول: "بين 60 و70 في المائة من أحياء المدينة تغرق في الفقر، في حين أنّ جزءاً منها لا ينتمي لهذا المحيط وهو حيّ مشروع الزراعة - تشرين الذي يسكنه تجار وقادة مليشيات موالية للنظام، وتختلف منشآته عن باقي المدينة، إذ تحتوي على مقاهٍ ومطاعم راقية جداً، ونوادٍ ليلية تشهد حفلات غناء وسهر تمتد حتى ساعات متأخرة، كما تتجول فيها أحدث طرازات السيارات. يضيف: "يختلف نمط الحياة في حي مشروع الزراعة عن باقي أحياء مدينة اللاذقية، فخدمات النظافة أفضل والكهرباء متوافرة، رغم أنّه يبعد نحو كيلومتر واحد فقط عن حي الرمل الذي يشهد فقراً استثنائياً، وتتداخل أسلاك الكهرباء بين مبانيه، ويضم مكباً للنفايات، وتنتشر في إرجائه بسطات وعشوائيات، علماً أنّ درجة الفقر في هذا الحيّ تدفع السكان للنبش في القمامة".
وتسكن حي الرمل غالبية من اللاجئين الفلسطينيين، وسوريون من ذوي الدخل المحدود، علماً أنّ الخدمات والبنى التحتية سيئة جداً فيه، في حين شهد عمليات توسع عشوائية كثيرة خلال الأعوام الماضية، وأيضاً احتجاجات ضد النظام السوري.
يوضح الجبلاوي أن "حي مشروع الزراعة على الحال ذاتها منذ سنوات، ولم يتأثر كثيراً بأحداث البلاد، بل زاد عدد المقيمين فيه، وبينهم أفراد من عائلة بشار الأسد، وقادة مليشيات الدفاع الوطني الموالية للنظام، علماً أنّ الأهالي العاديين في باقي الأحياء يأخذون احتياطات عند المرور قرب الحي خوفاً من التعرض لإهانة أو ضرب أو حتى اعتقال، إذ يمكن أن تكلف نظرة خاطئة صاحبها ثمناً باهظاً جسدياً أو مادياً".
وبدأ تشييد حي مشروع الزراعة مع وصول نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى السلطة في سبعينيات القرن العشرين، وسكنه منذ البدء متنفّذون في النظام وقادة مليشيات. في المقابل، يعدّ حي الدعتور الذي تسكنه غالبية من الطائفة العلوية أحد أفقر أحياء المدينة وأكثرها سوءاً على صعيد الخدمات والبنى التحتية والتنظيم، ما دفع شبانه إلى التطوع في مليشيات النظام في بداية ثورة 2011. وتضم اللاذقية أيضاً أحياء الشيخ ضاهر، والصليبة، والفاروس، والعوينة، والمشروع السابع، والمشروع العاشر، والطابيات، والسكنتوري، وعلي الجمال، والسجن، والمشروع الثاني، والأوقاف، ومار تقلا، والكورنيش، وشارع بغداد، والقلعة، والصبّاغين، ودمسرخو، والزقزاقية، وبسنادا.
بحسب مدير الأبحاث في جامعة "ليون" الفرنسية، فابريس بالونش، شهدت اللاذقية تغييراً ديموغرافياً خلال عقدين من الانتداب الفرنسي على سورية، بدءاً من عام 1920. وفي عام 1945، شكلّ العلويون نسبة 10 في المائة من سكان المدينة، ومكثوا في ضاحية الرمل الشمالي الفقيرة حينها، قبل أن يجري نظام حافظ الأسد تحولاً ديموغرافياً كاملاً في المدينة جعل نسبة العلويين فيها تتجاوز 80 في المائة في ثمانينيات القرن العشرين. وقدّر عدد سكان المدينة عام 2010 بحوالي 400 ألف، شكل العلويون نحو نصفهم، والسنّة 40 في المائة، والمسيحيون 10 في المائة.
يقول عبد الله (37 عاماً) المقيم في حي الصليبة لـ "العربي الجديد" إنه "عموماً الخدمات في اللاذقية أفضل من مدن أخرى، لكن أحياء العشوائيات فيها تفتقر إلى الخدمات وبينها الرمل الجنوبي ومشروع الصليبة ومسبح الشعب، التي لا تهتم البلديات بها، ما جعلها شبه مهمّشة ومعدومة الخدمات. في المقابل، تضم اللاذقية مناطق مصنّفة سياحية منها مشروع أفاميا والشاطئ الأزرق التي تعتبر مناطق حديثة يعطيها النظام أولوية من كل مجالات الخدمات والبنى التحتية والمشاريع، وحتى الاهتمام بالسكان".
وفي ظاهرة اعتيادية، تعتبر الكهرباء من أكبر مشاكل الأحياء الفقيرة في اللاذقية. يقول عبد الله إنّه "بعد التقنين الذي اعتمد أخيراً بات الحصول على الكهرباء حلماً بالنسبة إلى سكان الأحياء الفقيرة، فمدة قطع الكهرباء عن هذه الأحياء تتجاوز 6 ساعات غالباً، مقابل دقائق متقطعة من كهرباء الدولة لا تكفي لشحن البطاريات التي يستخدمها السكان في إنارة منازلهم ليلاً". يضيف: "الحياة أصبحت لا تطاق في المدينة. أتمنى كلّ يوم المغادرة، والابتعاد للوصول إلى مكان يشهد نوعاً من الطمأنينة". وإلى جانب أزمة الكهرباء التي يعاني منها سكان الأحياء الفقيرة، يواجه السكان أزمة مياه تفاقمت في شكل كبير في منتصف العام الماضي، في وقت تواصل حكومة النظام السوري والجهات المسؤولة في المدينة تقديم وعود للأهالي بحلّ المشكلة، من دون أن يتحقق أيّ شيء ملموس على الأرض.
من جهته، يقول حسام أبو المجد، وهو من أبناء اللاذقية لـ "العربي الجديد": "تسير الأمور نحو الأسوأ، لا سيما أنّ مجلس المدينة لا يقدم أيّ حلول حقيقية في شأن أزمة المياه التي بلغت ذروتها. المواطن الفقير مسحوق، سواء في اللاذقية أو مدن أخرى تخضع لسيطرة النظام، ودخلنا يذهب جميعه للحصول على أبسط خدمات الحياة مثل الخبز والماء والكهرباء، وذلك بخلاف سكان آخرين في المدينة تضاء منازلهم أو قصورهم ليلاً، وتصدر حفلاتهم أصواتاً تصمّ الآذان".
ويؤكد مصدر خاص لـ"العربي الجديد" أن شبكات المياه في المدينة قديمة ومضخات المياه تحتاج إلى كهرباء للعمل. وغالباً لا تتوافر كهرباء حين تتوافر المياه، ويعتمد قسم من الأهالي على الصهاريج. وهناك شكاوى كثيرة، في وقت لجأ النظام إلى شركات روسية لصيانة شبكة المياه، وبناء سدّ لتوفير المياه.
وتقع مدينة اللاذقية شمال غربي سورية، وتطل على البحر الأبيض المتوسط. وهي مركز المحافظة التي تحمل اسمها. ويسكنها حوالى 1. 2 مليون نسمة، وهي من المدن ذات التاريخ العريق في سورية، وتعاقبت عليها حضارات وممالك منها مملكة أوغاريت التي قدمت واحدة من أوائل الأبجديات للبشرية.