في ظلّ شحّ المساعدات التي تدخل قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي المستمر، وتقليص أعداد الشاحنات خلال الأيام الأخيرة، يعاني الغزيون بسبب النواقص الكثيرة في مراكز الإيواء والخيام، منها الملابس والأغطية وحتى الخيام. ويومياً، تظهر العديد من المشاكل من بينها نقص الأحذية ما يضطر الناس إلى تقاسمها، وبالتالي يبقى البعض حفاة.
في منطقة المخيّمات على الحدود الفلسطينية المصرية، يخرج بعض الأطفال حفاة في الصباح للتجول أو اللعب مع الآخرين على وقع أصوات القصف، إذ إن أعداداً كبيرة منهم فقدوا أحذيتهم خلال العدوان والنزوح المستمر. ولا يقتصر الأمر على الأطفال، بل يشمل أيضاً الآباء والأمهات الذين قد يخرجون لقضاء احتياجاتهم بلا أحذية أحياناً.
مثل هذه المشاهد تتكرر في مناطق مثل مدينة رفح. وبات عادياً أن يرتدي الرجال أحذية نسائية، وإن شعروا بالخجل في بادئ الأمر، إلا أنهم سرعان ما اعتادوا الأمر. وبات الكثير من الأزواج يتشاركون الحذاء نفسه، وقد ترى نساء يرتدين أحذية رجالية، كما هو حال عائلة إسراء ريحان (37 عاماً).
يتشارك زوج إسراء الحذاء معها يومياً. وعندما يعود إلى الخيمة الموجودة قرب الحدود مع مصر، ينام فتنتعل حذاءه للقيام ببعض الأعمال ورعاية الأطفال وغسل الملابس في محيط الخيمة. لا يملك الزوجان غير هذا الحذاء بعد اهتراء حذاء الزوجة في ظل حركة التنقل المستمرة والنزوح المتكرر. وتشير إسراء إلى أنها وغيرها من النساء ينتعلن أحذية رجالية، فيما ينتعل رجال أحذية نسائية، وقد بات هذا المشهد متكرراً في ظل الظروف الحالية.
تقول إسراء لـ "العربي الجديد": "جئنا من شمال قطاع غزة ومعنا كيسان فقط، واحد فيه ملابس لأربعة أبناء، وواحد لما تمكنا حمله معنا من طعام. نزحنا خلال الأسبوع الأول من العدوان من منطقة العطاطرة التي دمرت بالكامل. كنّا نعتقد أن الحرب ستكون مثل عدوان عام 2021. نزحنا أياماً وعدنا إلى المنزل الذي تضرر وجلبنا بعض الأغراض. لكن الحرب باتت اليوم في شهرها الخامس". تضيف: "نسيت الكثير من التفاصيل خلال رحلات النزوح. على سبيل المثال، خرجت بلباس واحد ونعل واحد (شبشب) وحذاء، إلا أنهما تعرضا للاهتراء جراء كثرة التنقل. في إحدى المرات، ربطت أحذية أبنائي على أجسادهم حتى لا تضيع أثناء الانتقال من مدينة خانيونس إلى مدينة رفح، إذ سرقت العديد من الأحذية أو ضاعت".
ويسعى الغزيون للبحث عن أية أحذية مستعملة أو بالية في أي مكان، وأحياناً على مقربة من القمامة. ويشعر الآباء أنهم أكثر قدرة على تحمل تشارك الأحذية على عكس الأطفال.
في بداية العدوان الإسرائيلي، وتحديداً في الشهر الأول، كان الغزيون يتنقلون أثناء النزوح بصورة سريعة متوجهين إلى المدارس الأقرب إلى محافظاتهم، إذ لم يتوقعوا أن يطول العدوان الإسرائيلي إلى هذا الحد وسط غياب أي أفق لوقفه. ونزح غالبية الناس حاملين بعض الأغطية والفرش، بالإضافة إلى حذاء أو اثنين لكل شخص. وحاول البعض العودة إلى منازلهم لجلب المزيد من الملابس وغيرها من الحاجيات ليجدوها مدمرة، فيما لم يتمكن آخرون من الوصول إليها بسبب شدة القصف.
وساهم النزوح المستمر في اهتراء الأحذية التي حملها النازحون معهم. يقول محمد أبو نحلة (41 عاماً)، الذي نزح من مدينة غزة إلى رفح، إنه حاول العودة إلى منزله في حي النصر لجلب بعض الأغراض، إلا أنه عجز عن الأمر بسبب شدة القصف.
فقد أبو نحلة حذاءه أثناء النزوح، واعتمد على حذاء وجده بالقرب من مكان لتجمع النفايات، ثم اشترى حذاء مستعملاً من مخيم البريج، لكنه اهترأ ولم يعد في حوزته سوى النعل (الشبشب) الذي يتنقل به رغم البرد القارس. وفي بعض الأحيان، تتفسّخ قدماه بسبب شدة البرد، حتى أنه يرتدي جوارب مهترئة في محاولة للحصول على الدفء في الليالي الباردة داخل المدرسة التي لجأ إليها هو وأسرته. يقول أبو نحلة لـ "العربي الجديد": "الأطفال لا يجدون الأحذية. وأسعار الأحذية المستعملة، في حال وجدت، مرتفعة. فالبائع يريد المال لشراء الطعام لعائلته". يضيف: "أصبحت الملابس والأحذية شحيحة جداً. نزحت ثماني مرات في مدينة غزة ووسط القطاع وعدة مخيمات ومدينة خانيونس وصولاً إلى رفح". يضيف: "نمشي مسافات طويلة على أقدامنا وفي شوارع مدمرة حيث الكثير من الحفر التي غمرتها المياه والحجارة من بقايا الأبنية المدمرة. من الطبيعي أن تهترئ أحذيتنا. لدي ثلاثة أبناء في أعمار متقاربة يتشاركون الشبشب والحذاء. ويخرج اثنان منهم حفاة رغم أن الأرض باردة جداً، إذ أن البقاء في مركز الإيواء يزيد الضغط النفسي عليهم".
وكان الغزيون قبل العدوان يواجهون تقييداً على دخول البضائع من الجانب الإسرائيلي. كما كان التجار في قطاع غزة خلال فترات الأعياد والتحضير للعام الدراسي الجديد، يعرضون بضائع قديمة مخزنة من سنوات قليلة بسبب رفع الضرائب من الجانب الإسرائيلي على معبر كرم أبو سالم. بالتالي، فإن المنتجات الموجودة في السوق قليلة ومحدودة بالأصل بالنسبة إلى حاجة سكان القطاع. وكان بعض التجار ينتظرون دخول بضائع موجودة عند موانئ الاحتلال بعد التخليص الجمركي. ومع بدء العدوان الإسرائيلي، عمد عدد منهم إلى بيع جزء من البضائع للنازحين على وجه الخصوص، الذين كانوا يحتاجون إلى ملابس وأحذية، هم الذين نزحوا بشكل مفاجئ، فيما عمد آخرون إلى بيعها لمؤسسات محلية خيرية وإغاثية.
إضافة إلى ذلك، قصف الاحتلال الإسرائيلي محال الأسواق المركزية في منطقة شارع عمر المختار وسوق مخيم جباليا وسوق النصيرات وخانيونس، وأحرق عشرات مستودعات البضائع التي تضم أحذية وملابس.
إصلاح الأحذية بصعوبة
ينتشر الكثير من العاملين في مجال خياطة الملابس وتصليح الأحذية في مدينة رفح في سوق البلد الواقع في الشارع العام، ويعملون على ماكينات تشغل من خلال الدراجات الهوائية في ظل غياب الكهرباء أو أي بدائل أخرى.
على مقربة من مخيم يبنا وسوق البلد وسط مدينة رفح، يعمل يحيى نصر في إصلاح الأحذية قدر الإمكان، ويشهد المكان الذي اختاره للعمل ازدحاماً كبيراً، علماً أن طريقة عمله اختلفت تماماً في ظل شح المواد التي يحتاجها وعدم توفر خيوط ملائمة لخياطة الأحذية، وقلة الجلود التي يحتاجها أحياناً لاستبدال الطرف المهترئ. وفي الكثير من الأحيان، يضطر إلى وضع أي قطعة قماشية أو جلدية يجدها في الشارع لإصلاح الأحذية.
نصر من سكان مخيم يبنا، ويعتبر أن ما يراه يومياً من مشاهد دموية يدفعه إلى إصلاح الأحذية من دون طلب المال، علماً أن لديه عائلة مكونة من 11 فرداً وهم والدته ووالده وأشقاؤه وأبناء شقيقه الذي استشهد قبل ثلاثة أشهر بسبب قصف اسرائيلي على مدينة رفح. يقول لـ "العربي الجديد": "هناك إقبال كبير من قبل الناس لإصلاح أحذيتهم. والمشكلة تكمن في نوعية الأحذية التي يجلبها الناس إلينا. لذلك، نصلحها بصعوبة". يضيف: "أخبر الكثير من الناس الذين يأتون إلينا أنه لا يمكن إصلاح أحذيتهم، لكنهم يصرون على ذلك بأي طريقة لأنه لا بديل آخر أمامهم. في مرات كثيرة، أضطر إلى خياطتها رغم إدراكي أن الأمر لن يدوم طويلاً. لكن هذا واقع فُرض علينا".
يضيف: "أطلب من بعض الناس إحضار أي قطعة جلدية أو قماش لأخيط الأحذية. في مرات كثيرة، يحضرون لي أقمشة يجدونها في الشوارع أو في القمامة. وفي بعض الأحيان، لا أجد زيوتاً مخصصة لتشغيل الماكينات، فأضطر إلى استخدام زيت الطعام ووضع القليل منه. الكثير من الناس يحضرون وينتظرون طويلاً وهم حفاة في الخارج، على أمل إصلاح أحذيتهم التي لا يملكون سواها".
يبقى أن مشكلة خسارة الأحذية وفقدانها ليست إلا مشكلة واحدة من بين كم من الأزمات التي يواجهها أهالي القطاع في كل يوم. ويزداد الأمر سوءاً كلما استمرت الحرب، إذ تضيق الخيارات أمام الناس.