في كلّ مكان في العالم، يعيش الغجر خارج إطار المجتمعات التقليدية التي تعتمد على الضوابط الاجتماعية. هم متحررون نوعاً ما من قيود الحياة العادية، وبعض الناس لا يتقبلونهم.
تختلف الإحصاءات التي تصدرها المنظمات الحقوقية والمحلية في شأن عدد الغجر في العراق. تحدد بعض المنظمات عددهم بأقل من 300 ألف موزعين على مناطق البلاد، وبينها إقليم كردستان (شمال)، لكنّ مراقبين يشككون بأنّ عددهم لا يتجاوز بضع عشرات الآلاف، في حين لا يتوافر لدى السلطات ومفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أي تصور عن عددهم، لأنّ الغجر لا يسجلون معظم أولادهم في دوائر الجنسية، ويرفضون الحصول على تعليم، بحسب ما يقول مسؤولون محليون.
تختلف الروايات حول أصول الغجر المنتشرين في العراق وفلسطين وسورية ومصر ودول أخرى في الشرق الأوسط. لوحظ ظهورهم في العراق خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، حين استقروا في مدن ومناطق عدة مثل البصرة والقادسية وذي قار والمثنى ونينوى وديالى، وعرفوا بتنقلهم المستمر بين هذه المناطق. وحصل الغجر خلال العهد الملكي في العراق على وثائق رسمية، تضمنت وسمهم بعبارة "غجر" التي كفلت تعرضهم لتمييز في العمل والدراسة وحقوق التملك وعقود البيع والشراء وغيرها، كما انتقمت بعض الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلحة منهم بذرائع وحجج مختلفة.
ويشير باحثون عراقيون إلى أنّ كثيرين لم يؤيدوا طوال عقود فكرة منح الجنسية للغجر، رغم أنّ السلطات سعت إلى تجنيسهم في فترات متفرقة. ويوضحون سبب الرفض بالاعتقاد السائد أنّ دمجهم في المجتمع العراقي أمر صعب بسبب تقاليد العشائر التي لا تسمح للغجر بالإقامة داخل مدن كونهم يمتهنون الرقص والطرب، ولا يملكون أوراقاً رسمية تثبت نسبهم. وعموماً، يربط باحثون أصول الغجر بأقليات عرقية قدِمت إلى العراق من أفغانستان والهند في الألف الأول قبل الميلاد، وامتهنوا الرقص والغناء وسيلة للعيش.
يقول سالم بكر، وهو غجري يستقر في حي الكوثر بمحافظة بابل، لـ "العربي الجديد": "تمكث منذ 7 سنوات نحو 180 أسرة غجرية في هذا الحيّ الذي لا تتوافر فيه مياه صالحة للشرب وكهرباء، أو أيّ من خدمات مديريات البلدية وهيئات التنظيف، في حين تقتحمه قوات الأمن الوطني والاستخبارات باستمرار للتدقيق بوجود مجرمين أو أماكن دعارة، علماً أنّ الغجر لا يتاجرون بالدعارة، بل يحبون الفنون وتحديداً الغناء". يُضيف: "الغجر هم الشريحة الوحيدة في العراق التي لم تتعامل مع الإرهاب، ولم تشكل مليشيات لسرقة العراقيين وقتلهم. وقبل عام 2003 دعم النظام الحاكم نشاطاتنا الفنية التي كان يصورها ويعرضها في التلفزيون، ثم باتت مهملة حالياً، ولا تهتم معظم الفضائيات بفنون الغجر". ويُشير بكر إلى أنّ "غالبية الغجر في العراق يمتلكون الجنسية، إضافة إلى شهادة الجنسية، وهي وثيقة رسمية ثانية تتضمن كلمة استثناء التي تمنع تعيينهم في مؤسسات ودوائر الدولة العراقية، سواءً المدنية أو العسكرية والأمنية، لذا يعمل معظم الغجر في العراق في البناء، وافتتح بعضهم محال نجارة، فيما يعزف آخرون على آلات موسيقية من بينها الربابة في فرق الغناء الشعبي، علماً أنّ تزايد عدد الغجر وقلة فرص العمل، اضطرّ كثيرين منهم للجوء إلى الشوارع، وامتهان التسول الذي يمارسه اليوم غالبية الغجر في شوارع بابل وبغداد، وهو ما يظهر جلياً في ملامحهم. لذا من الضروري أن تهتم الحكومة العراقية بهم، كي لا يتسبب الفقر بالانتماء إلى عصابات أو جماعات إجرامية".
من جهته، يقول عضو مجلس المفوضية العليا لحقوق الإنسان (مستقلة)، علي البياتي لـ "العربي الجديد" إنّ "الغجر شريحة متضررة من معظم القرارات الحكومية، وفي حالة حرجة حالياً بسبب ارتفاع معدلات الفقر والجوع وغياب المعيل ومنعهم من العمل، وعدم امتلاكهم الحقوق الكافية للحصول على خدمات الصحة والعلاج. وخلال فترة تفشي جائحة كورونا تعرضوا إلى جوع كبير، وساعدتهم المفوضية ومنظمات محلية أخرى للمجتمع المدني". ويعتبر البياتي أنّ "هناك تمييزاً واضحاً ضد الغجر، لا سيما في فقرات تتعلق بإصدار البطاقة الموحدة، وهي النسخة الحديثة من الجنسية العراقية. ونحن نعمل منذ أكثر من عام على توفير البطاقات الموحدة لهم، من أجل إتلاف الوثائق الحكومية التي كانت تتضمن رموز تمييز، وتمنع حصولهم على عمل ووظيفة ودراسة في المدارس والجامعات، علماً أنّ هناك اتفاقات بين العراق ولجان الأمم المتحدة المناهضة للتمييز للوصول إلى نتائج مهمة في هذا الملف".
ومؤخراً، قال مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة ديالى، صلاح مهدي، إنّ "الغجر في ديالى تجمعوا بعد 2006 في منطقة عشوائية أشبه بقرية تقع في جنوب غربي مدينة بعقوبة وتضم عشرات المنازل المتواضعة". ووصف الوضع الاقتصادي للغجر بأنّه "صعب وقاس جداً بسبب شح الفرص المتوافرة للعمل لأبنائهم في كل القطاعات العامة والخاصة بسبب حساسية المجتمع تجاههم، علماً أنّ نسبة 70 بالمائة من الغجر أميّون، حتى أنّ حصول أحد أبنائهم على شهادة البكالوريا حلم بالنسبة لهم".
من جهتها، تكشف الناشطة في مجال حقوق الإنسان أسماء الخفاجي، أنّ "الاهتمام الحكومي بشريحة الغجر في العراق يكاد يكون معدوماً، وهم يعتمدون على إعانات عادية وبسيطة لا تتناسب مع حجم احتياجاتهم، ويطالبون بحق العمل والتعيين والدراسة وتوفير الخدمات لهم على غرار باقي الناس، وإنقاذهم من الأمراض وإخراجهم من الأحياء السكنية المسحوقة التي يعيشون فيها إلى مناطق أفضل حالاً". وتوضح لـ "العربي الجديد" أنّ "معظم الغجر يستقرون في مناطق معروفة بأحياء التنك التي تبنى ببقايا ومخلفات الحديد، فيما يتخبطون في مشكلة عدم اختيارهم أيّ ممثل سياسي لهم رغم أنّ لديهم الحق في الاقتراع، أو حتى في ممثل اجتماعي ليطالب بحقهم ويوصل صوتهم في المحافل المحلية والاجتماعية، لذا قد يتأخر حصولهم على حقوقهم". ويرى الخبير في شؤون التنوع في العراق، سعد سلوم، أنّ "التمييز في نظرة المجتمع العراقي للغجر يمنع تطورهم وظهورهم في منصات الإعلام، وهذا الأمر لا يقتصر على العراق، بل يمتد إلى كلّ الدول التي يوجد فيها الغجر، وحتى في أوروبا".