عند الساعة الثانية من بعد منتصف ليل الجمعة، ومع بدء سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ووسط الظلام وانقطاع الكهرباء، وعلى وقع أصوات طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي لم تغب عن سماء القطاع، علت أصوات الغزيين الذين هللوا فرحاً بانتهاء العدوان الإسرائيلي، هم الذين صمدوا في ظل عدوان اعتبروه الأقسى مقارنة بالحروب التي عاشوها في السابق.
خرج الأهالي إلى الشوارع، معربين عن فرحتهم، حاملين الرايات والأعلام الفلسطينية، وكأنّهم يعوّضون عن انتزاع الاحتلال الإسرائيلي فرحتهم بعيد الفطر. وبدلاً من العيد الأخير، كان عيد النصر لصمودهم في هذا العدوان الذي امتد 11 يوماً متواصلاً وحرمهم النوم والراحة وقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم وغيّر ملامح غزة الجميلة في المناطق التي تعرّضت للقصف.
نجونا من الموت
والغزيّون ليسوا معنيين بتفسير أسباب فرحتهم للآخرين، وخصوصاً بعد كل ما تعرّض له القطاع من دمار. يكافئ الأهالي أنفسهم بعدما أُزيح عنهم الظلام والخوف ونجا كثيرون من الموت، وقد قتل هذا العدوان المدنيين في بيوتهم التي يفترض أن تكون آمنة. في هذا السياق، يقول أحمد صيام (28 عاماً)، إنه سعيد لنجاته من موت محقق مرات عدة، وقد خرج في ساعات الفجر الأولى وراح يهتف ويصرخ بأعلى صوته، علّه يخرج من جسده كل معاناة الأيام الأخيرة خلال العدوان.
كان صيام ينتظر حلول عيد الفطر بفارغ الصبر ليخرج إلى الأسواق ويعيش مع الأهالي فرحة العيد. حتى أنه كان قد اشترى ثياباً جديدة استعداداً للعيد. لكنه اليوم، يرى أن ليلة إعلان الهدنة هي ليلة العيد، وخصوصاً أنه وأصدقاءه اعتادوا التنزه خلال ليلة العيد وسط جو من الفرح وإقبال الناس على شراء الحلويات والكعك. لكن هذه المرة "كان طعم العيد مختلفاً"، موضحاً أن "هذا العيد كان بنكهة الانتصار". يقول إنه اضطر وأسرته للنزوح إلى إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في منطقة الرمال هرباً من القصف الإسرائيلي الذي تعرّضوا له.
يتابع صيام لـ "العربي الجديد": "أحتفل لأنني سأعود وعائلتي إلى المنزل، وإن كان قد تضرر، ولأنني سأغادر المدرسة حيث عانينا وشعرنا بالذل، ولأنني أريد العودة إلى حياتي الطبيعية والتنزه عند شاطئ غزة، ولأنني نجوت من موت محقق قبل 5 أيام في حي الشجاعية وداخل حينا في منطقة المنطار. كذلك، أشعر بالسعادة لأننا شعب لا يستسلم وهذا الشعور عظيم لا يعرفه كثيرون".
سندافع عن القدس
على مقربة من صيام، كانت ديما خليل (6 أعوام) وأحمد خليل (7 أعوام) يشاركان الناس الاحتفالات، وقد أعربا عن شعورهما بالفرح. هذان الطفلان، كغيرهما من أطفال غزة الذين لم يتسن لهم الاحتفال بالعيد، شعرا بأن العيد حل عليهما مرة أخرى بعدما صدحت المساجد بتكبيرات العيد مع بدء سريان وقف إطلاق النار.
تقول ديما التي كانت تنظر إلى والدها بخجل، إن الأخير علّمها أن القدس هي عاصمة فلسطين، والدفاع عنها يبدأ من خلال الأطفال في مثل عمرها. وعندما تكبر، يجب أن تدافع عن حق الفلسطينيين فيها حتى لو بالكلمة. كانت ووالدتها تنويان زيارة القدس قبل أكثر من عام ونصف، لكن الاحتلال رفض إعطاءهما تصريحاً بذلك، مشيرة إلى أن "إسرائيل لا ترغب بذلك".
أما شقيقها أحمد، فيقول لـ "العربي الجديد": "خفت كثيراً أثناء اشتداد القصف. كنت أصرخ بسبب الخوف من الموت، وأخبر أمي بأنني سأموت قبل أن أكبر". يضيف: "يقول لي والدي إنني كنت رضيعاً خلال حرب 2014، وكنت أبكي أثناء سقوط الصواريخ، لكن الحمد لله أنني لا أتذكر شيئاً. أرغب في الذهاب إلى القدس كما يذهب المصريون إلى الأهرامات ويلتقطون الصور".
لن تنازل عن حقوقنا
"كثيرون خرجوا إلى الشارع للتعبير عن سعادتهم بدور المقاومة الفلسطينية خلال هذا العدوان وصمودها، هي التي وجهت ضربتها العسكرية الأولى في وجه العدو بعد انتهاكاته في حي الشيخ جراح. وعلى الرغم من كل ما فعلته الآليات العسكرية الإسرائيلية، إلا أن المقاومة لم ترفع الراية البيضاء"، يقول مصطفى حماد (45 عاماً). يضيف أنّ "القوانين حول العالم تكفل حق وجود فصيل أو جماعة تدافع عن حقوق مشروعة في أرضها. ونحن نرفض التنازل عن حقوقنا، في ظل أكذوبة السلام التي يطالب بها بعض الدول العربية رغم استمرار احتلال الضفة الغربية وغزة من قبل إسرائيل".
خسر مصطفى صديقه المقرب خلال العدوان، وهو الطبيب أيمن أبو العوف الذي راح ضحية المجزرة التي ارتكبها الاحتلال بحق العائلة في شارع الوحدة في مدينة غزة. وعلى الرغم من حزنه على استشهاده، إلا أنه لا يخفي فرحته بانتهاء العدوان، معتبراً أن "عدم الخضوع لقرارات العدو هو انتصار يستحق الفرحة".
أما زوجته نبيلة (43 عاماً)، فتقول إن خروجها برفقة زوجها خلال ساعات الصباح الأولى تعبيراً عن الفرح، هو محاولة لتناسي الهموم والمعاناة التي عاشتها على مدى 11 يوماً، وتناسي الدمار الذي طاول منزلها الذي تضرر بشكل كبير في حي النصر وسط مدينة غزة، بعد استهداف مباشر لمنزل بالقرب من منزلهم. وتخشى نبيلة تكرار العدوان الإسرائيلي وقد خسرت صديقات وطالبات كانت تدرسهن، هي التي تعمل كمعلمة في مدرسة بشير الريس في شارع الوحدة.
فرح جماعي
أما سمير عوض الله (30 عاماً) والذي كان يشارك أصدقاء له في الأجواء الاحتفالية، فيعلّق لـ "العربي الجديد": "لا أقول إننا انتصرنا أو انتصروا علينا. أنا سعيد لأن العدوان انتهى، وأريد أن أعيش هذه اللحظة بفرح جماعي. نجونا من الموت بعد 12 يوماً كانت من أصعب أيام حياتنا، وقد رأينا الموت أكثر من مرة، وكنا نشاهد أطفالنا يرتعدون خوفاً، كما هدمت أجمل معالم غزة. عشنا مأساة نريد أن نخرجها من عقولنا وقلوبنا من خلال الفرح والتهليل والتكبير".