أدت موجات النزوح الكبيرة والكثافة السكانية في عدد من مناطق شمالي سورية إلى تراجع الخدمات الأساسية، منها المياه النظيفة وقلّة التوعية الصحية على الرغم من حصول الأطفال على اللقاحات الأساسية التي تحميهم من الأمراض. هذه الأسباب وغيرها أدت إلى عودة انتشار العديد من الأمراض في البلاد، والتي يفترض أنه تمت السيطرة عليها منذ سنوات.
أصيبت منال الشيز (7 سنوات)، وهي من مدينة سراقب (في منطقة مركز إدلب في محافظة إدلب)، بداء الليشمانيات. وتقول والدتها لـ"العربي الجديد": "منذ سيطرة قوات النظام السوري على مدينة سراقب بعد الحملة الأخيرة على محافظة إدلب، اضطررنا للنزوح إلى مخيمات الشمال في مدينة الدانا (محافظة إدلب). وأدى التلوث إلى انتشار أمراض لم نكن نشهدها ما قبل اندلاع الثورة السورية".
تتابع: "تعرضت ابنتي منال للسعة حشرة ذبابة الرمل التي تنتشر في الأماكن الملوثة والمستنقعات، ما أدى إلى إصابتها بداء الليشمانيات. وارتفعت حرارتها أشهراً عدة، وأصيبت بتقرحات جلدية ما زالت تلتهب على الرغم من استخدامها العديد من العلاجات واتباع كل التعليمات وتوصيات الأطباء. ما حدث أدى إلى تشوه وجهها وأثّر على نفسيتها، وخصوصاً أنها لم تشف بعد على الرغم من إصابتها بالمرض قبل نحو عامين. كما أدت إصابتها بتقرحات في الفم وصعوبة في البلع والتنفس إلى فقدانها الكثير من الوزن".
تضيف: "هذه الأمراض ستستمر في الانتشار ما لم تكن هناك حلول لمشكلة التلوث والصرف الصحي في المخيمات، ورش المبيدات الحشرية في المخيمات والمدارس".
بدورها، تقول مسؤولة التوعية الصحية في الجمعية الطبية السورية الأميركية – سامز، رهام ويس، لـ"العربي الجديد": "بعد اندلاع الثورة السورية وبدء موجات النزوح وانتشار المخيمات وضعف الاهتمام بالبيئة والتوعية الصحية، انتشرت الحشرات وخصوصاً ذبابة الرمل". تضيف: "تقدم سامز خدمات الرعاية الصحية لعلاج الأمراض الجلدية في مراكز وعيادات متنقلة تابعة لها، وتساعد شهرياً نحو 700 مريض، 15 في المائة منهم أطفال ما دون الخمس سنوات"، مشيرة إلى وجود 67 مركزاً صحياً لعلاج المصابين بداء الليشمانيات، و6 عيادات جوالة تغطي الشمال السوري.
تتفاقم الأمراض في مناطق الشمال السوري ومخيمات النزوح خلال فترات تغير الفصول
تضيف ويس: "عادة ما ترتفع نسبة الإصابات خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام"، مشددة على ضرورة اتخاذ الإجراءات الوقائية خلال فصل الصيف لتجنب الإصابة بالمرض، في ظل شح المياه النظيفة وإجراءات النظافة، وخصوصاً في مناطق تجمع خيام النازحين التي تفتقر إلى مقومات الصحة والسلامة الأساسية.
وتقول ويس: "ما من عراقيل ملحوظة تمنع تقديم الخدمات الصحية ورش المبيدات الحشرية في مناطق الشمال السوري لمكافحة ذبابة الرمل"، مشيرة إلى أن "المشكلة الأساسية تتمثل في قلة الوعي حول كيفية انتقال المرض والعلاج".
وتقول مدرسة تعمل في إطار مشروع لمحو الأمية لدى أطفال المخيمات في بلدة تل الكرامة التابعة لريف حلب الغربي فاطمة السعدي (إسم مستعار) لـ"العربي الجديد": "ترافقني ابنتي نسرين (6 سنوات) إلى المدرسة منذ بدء مشروع محو الأمية، كونها أصبحت في سن التعليم الإلزامي. إلا أن انتشار مرض قمل الرأس المعدي بشكل كبير اضطرني إلى تعليمها في المنزل، علماً أنها أصيبت بالمرض مرات عدة. كما أن استعمال الأدوية الكيميائية للعلاج أدى إلى إصابتها بمشاكل جلدية".
تضيف السعدي: "عملي في المدرسة يفرض علي أن أكون حذرة حرصاً على عدم إصابتي ونقل العدوى لعائلتي. وعلى الرغم من قيام بعض المنظمات بحملات توعية وإجراء فحوصات دورية لتلاميذ المدارس وتوزيع أدوية، إلا أنها لا تعد كافية لعلاج جميع المصابين. من جهة أخرى، فإن قلة توفر المياه النظيفة وانتشار التلوث في المخيمات واختلاط الأطفال بعضهم ببعض تجعل الحد من تفشي الأمراض أكثر صعوبة".
في هذا الإطار، توضح ويس أن الأدوية الخاصة بعلاج الجرب (مرض جلدي معدٍ يصيب جميع الفئات العمرية) وقمل الرأس متوفرة في مناطق الشمال السوري من خلال المنظمات والصيدليات الخاصة. إلا أن عدم الالتزام بالأدوية والتعليمات الصحية يشكل عائقاً أمام الاستفادة منها بالشكل الأمثل. تضيف أن الوقاية تعد عنصراً أساسياً لتجنب الإصابة بمثل هذه الأمراض، كغسل الثياب والأغطية بالمياه الساخنة وتعريضها لأشعة الشمس وغير ذلك.
مخاوف النازحين السوريين من تفشي مرض السل باتت هما إضافيا
من جهته، يقول والد سامر السعدي (12 عاماً)، الذي نزح من جبل الزاوية إلى مخيمات الشمال السوري، لـ"العربي الجديد": "أصيب ابني بمرض السل (مرض معد تسببه بشكل أساسي المتفطرة السلية)، ويؤثر بشكل رئيسي على الرئتين (السل الرئوي)، ولكنه قد يهاجم أي جزء من الجسم، وينتشر عن طريق الهواء)، وبدأت تظهر عليه أعراض المرض قبل نحو عام، وعانى من السعال الشديد وآلام في الصدر وصعوبة في التنفس وفقدان الشهية. خلال هذه الفترة، تناول الكثير من الأدوية، إلا أن سوء التغذية أدى إلى تأخر شفائه. كما لم يحصل على لقاحاته خلال السنوات الأولى بسبب ظروف الحرب والنزوح".
في هذا الإطار، تشير ويس إلى أن الفقر والوضع الأمني في شمال غرب سورية هما من التحديات التي يواجهها المرضى والمنشآت الصحية. من هنا، يتابع مرشدون اجتماعيون المرضى من خلال زيارات دورية إلى منازلهم ومراقبتهم أثناء تناول أدويتهم، ويضيف: "بشكل عام، تمت السيطرة على تفشي مرض السل منذ بدء انطلاق برنامج السل عام 2019، الذي تنفذه منظمة الصحة العالمية".
وأُنشئت في شمال غرب سورية ثلاثة مراكز لعلاج السل عام 2019، في كل من إدلب وأعزاز وعفرين. وفي مارس/ آذار الماضي، أُنشئ مركز جديد لمكافحة السل في منطقة الباب، ويبلغ المتوسط الشهري لعدد حالات الإصابة بالسل نحو 35 حالة في جميع المراكز، والمتوسط الشهري لعدد المستفيدين الذين يزورون المراكز نحو 500.
وتوضح ويس أن "التحدي الرئيسي الذي نواجهه في شمال غرب سورية هو الافتقار إلى آلية واضحة لفحص وتشخيص الحالات"، مشيرة في الوقت نفسه إلى خصوصية المنطقة والنزوح المتكرر، الأمر الذي يؤدي إلى فوضى أحياناً في متابعة حالات الإصابة بالسل وفعالية العلاج. تتابع: "حاولنا التغلب على هذه المشكلة من خلال متابعة المرضى داخل مجتمعاتهم. في الربع الثالث من عام 2019، كانت نسبة العلاج الناجح 70.7 في المائة، لترتفع إلى 84 في المائة في الربع الأول من عام 2021".
تتابع ويس أنه منذ بداية مشروع السل في يوليو/ تموز 2019 وحتى نهاية مارس/ آذار من عام 2022، جرى تشخيص حوالي 1350 حالة إصابة بالسل، منها 23 حالة مصابة بالسل المقاوم للأدوية. وشكلت هذه الحالات تحدياً كبيراً بالنسبة للمنظمة، إلا أننا بدأنا علاجهم مستعينين بأحدث الإرشادات الدولية. وتشير إلى وجود تعاون مع مديرية الصحة في ولاية هاتاي.
كما تتحدث ويس عن ارتفاع نسبة الإصابة بمرض الحصبة الفيروسي (يمكن تشخيصه عن طريق الطفح الجلدي المميز، وظهور بقع بيضاء داخل الفم على بطانة الخد). ووصل عدد حالات الإصابة حتى إبريل/ نيسان الماضي إلى ألف حالة، معظمها في منطقة الباب. إلا أنها بدأت تزداد في منطقة أعزاز، وأُبلِغ خلال الأسبوع الأخير من شهر إبريل/ نيسان الماضي عن 15 إصابة، في وقت سُجلت نحو 53 إصابة خلال الشهر الجاري. كما شهدت عفرين حالات إصابة.
عملت المنظمة في منطقتي الباب وبزاعة بشكل أساسي، واستهدفت 65700 حالة إصابة، كما تم الوصول إلى 75 في المائة من الأطفال ما بين عمر 6 أشهر و10 سنوات. تتابع: "مؤخراً، شهدت منطقة الباب انخفاضاً في نسبة الإصابات. وفي الأسبوع الأخير من شهر مارس/ آذار الماضي، كان هناك ازدياد واضح في حالات الإصابة في منطقة أعزاز. بالإضافة إلى ما سبق، كثف عمل الفرق المسؤولة عن إعطاء اللقاحات المضادة للحصبة للأطفال المتسربين من المدارس. والعمل مستمر لتغطية جميع المناطق المحررة في أسرع وقت ممكن".