لم يكفِ قوات الاحتلال الإسرائيلي استهدافها المدنيين في عدوانها الأخير الذي طاول مناطق فلسطينية عديدة، فطاولت اعتداءاتها كذلك طواقم الإسعاف العاملة على الأرض، منتهكة بذلك القوانين والأعراف الدولية.
سنتيمترات قليلة كانت تفصل نادر مُرار، ضابط الإسعاف في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، عن رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين استهدفوا بشكلٍ مباشر أبواب مركبة الإسعاف التي كان يستقلّها مرار وزميله، في خلال ذروة اشتعال مواجهات حاجز بيت إيل المقام على المدخل الشمالي لمدينتَي رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية المحتلة. حصل ذلك قبل أيام، وفي خضمّ مواجهات غاضبة على خلفية عدوان الاحتلال متعدد الأشكال على مدينة القدس المحتلة وقطاع غزة المحاصر والداخل الفلسطيني المحتل في عام 1948. وعلى الرغم من وضوح الشارة المعترف بها عالمياً على المركبة، بوصف الجمعية جزءاً من الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، فإنّ جنود الاحتلال لم يكترثوا لذلك ولا لسلامة المسعفين، وواصلوا انتهاكاتهم في حقّ طواقم الإسعاف الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وغيرهما.
يخبر مرار "العربي الجديد" أنّ "صوت الرصاص كان متقطعاً وحاولت وزميلي المسعف الذي يقود المركبة التقدّم قليلاً، عندما تعالت أصوات الشبان لإسعاف أحد المصابين. فقام أحد جنود الاحتلال، وأظنّه قنّاصاً، باستهداف الباب المحاذي لجهة السائق مباشرة بالرصاص الحيّ، بقصد تأخير إسعاف الحالة وضمان قتل المُصاب، علماً أنّنا نُعِدّ الأمر كذلك استهدافاً لنا. حينها، قررنا النزول من جهتي والتقدّم نحو الشاب المصاب للإسراع في إنقاذ حياته". ويغصّ مرار وهو يعيد سرد الواقعة، خصوصاً أنّه أيقن من خلال التشخيص السريع لإصابة الشاب أنّها قاتلة وأنّه قد يرتقي شهيداً. وهذا ما حصل بالفعل، إذ استشهد الشاب محمد حميد (25 عاماً) وهو من بلدة بيت عنان شمال غربي القدس.
يُعَدّ استهداف المسعفين بالرصاص الحيّ وبطريقة مباشرة، أحد أبرز الطرق التي يحاول عبرها الاحتلال جعل الفلسطينيين المتظاهرين في خلال المواجهات يدفعون ثمن مواقفهم، من خلال ردع المُسعفين عن تقديم أيّ خدمة طبية للمصابين، وحرمان هؤلاء من الخدمات الطبية العاجلة لإنقاذ حياتهم. ويأتي ذلك انتهاكاً واضحاً لمبادئ اتفاقية جنيف الدولية الرابعة وكل المبادئ الإنسانية.
يوضح المتحدث الإعلامي الرسمي باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، مأمون العباسي، لـ"العربي الجديد"، أنّ "أشكالاً أخرى من الانتهاكات يرتكبها الاحتلال في حقّ طواقمه العاملة في الضفة الغربية وبعض مناطق القدس، من خلال الاستهداف المباشر بالرصاص الحيّ والمعدني المغلف بالمطاط. وهو ما تسبّب في إصابات لدى مسعفين، بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط في البطن والقدمَين، وكذلك إصابات بقنابل الصوت". يضيف العباسي أنّ "من أشكال اعتداءات الاحتلال على طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، منع مركبات الإسعاف من الوصول إلى مناطق المواجهات أو الأحداث، وإعاقة عمل طواقم الإسعاف الراجلة كذلك ومنعها من الوصول إلى المصابين، والضرب المباشر بالأيدي أو بالأرجل أو بالهراوات، مثلما حصل مع بعض مسعفي الهلال الأحمر الفلسطيني في منطقة باب الأسباط بالقدس المحتلة".
في مدينة القدس المحتلة التي انطلقت منها شرارة الهبّة الشعبية الأخيرة، تنشط إلى جانب طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني جمعيات أهلية وخيرية صغيرة تعمل في مجال الإسعاف وتقديم الخدمات الطبية والصحية للمرابطين والمصلين في المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس، وكذلك في أحياء تشهد احتكاكاً متواصلاً مع المستوطنين، وأبرزها حيّ الشيخ جراح أخيراً.
جمعية "الأمل للخدمات الصحية في القدس" واحدة منها، وهي تشكّل بكلّ أفرادها وموظفيها طاقماً للإسعاف الميداني في مناطق التماس في القدس المحتلة. يوضح مدير الجمعية عبد المجيد طه لـ"العربي الجديد"، أنّها "تضمّ نحو 50 مسعفاً، وتتخذ من باب العامود في مدينة القدس مقراً لها، حيث بدأت انتهاكات الاحتلال على المصلين وأبناء القدس". يضيف طه أنّه "مع توتّر الأوضاع في منطقة باب العامود أخيراً، اضطررنا إلى تحويل مقرّ الجمعية هناك إلى عيادة ميدانية، كذلك وزّعنا طواقمنا على أماكن عدّة بسبب اتساع نطاق المواجهات مع الاحتلال، ليشمل أبواباً أخرى في البلدة القديمة من القدس مثل باب الزاهرة ومنطقة المُصرارة وشارع نابلس وغيرها". ويؤكد طه أنّ "انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في حقّ مُسعفي الضفة الغربية لم تختلف عن تلك التي طاولت زملاءهم في مدينة القدس، وأبرزها منع وصولهم إلى الحالة (التي تحتاج مساعدة) بأيّ طريقة. كذلك لم يتردد الجنود في رمي قنابل الصوت والغاز صوبنا واستهدافنا بالرصاص المطاطي".
في بداية الهبّة الشعبية في القدس، كثّفت قوات الاحتلال حملة اعتقالاتها بطريقة وُصفت بـ"الانتقامية"، ويؤكد طه أنّ "من بين المعتقلين عدداً من المسعفين". ويوضح أنّ "الاحتلال اعتقل المسعف محمد مسودة، من أمام مقرّ الجمعية في منطقة باب العامود. وبعد الاعتداء عليه بالضرب على رأسه، أُصيب بتشنجات لاحقاً، ثمّ اقتاده جنود الاحتلال إلى مركز التحقيق وتمّ تحويله إلى الحبس المنزلي لمدّة خمسة أيام، مع إبعاده عن منطقة باب العامود وشارع صلاح الدين ومنطقة باب الزاهرة لخمسة عشر يوماً". كذلك يستهدف الاحتلال المسعفين بالرصاص في أثناء محاولتهم إنقاذ المصابين، ويحاول التشويش عليهم بقنابل صوتية تُلحق بهم شظاياها الصغيرة أذى جسدياً كذلك. وفي إحدى الحوادث، حصل أن أُغمي على إحدى الشابات، فنقلها مسعفو الجمعية إلى العيادة الميدانية، فعمد جنود الاحتلال المتمركزون عند باب العامود إلى رمي قنبلة صوتية في اتجاههم، الأمر الذي ألحق الأذى بالمسعفين فجُرح أربعة منهم. ومثل هذه الاعتداءات قد تؤدّي كذلك إلى تفاقم حالة المصابين الذين ينقلهم المسعفون.
في هذا الإطار، وقبل نحو شهر من الهبة الشعبية، انضمت المسعفة الشابة سميحة إدكيدك إلى عملها الميداني، لكنّها أصيبت بعد أيام من هذه الهبة بحروق من الدرجة الثانية والثالثة في ذراعها اليسرى، خلال محاولتها تقديم الإسعافات الأولية والميدانية للمصلين بالقرب من مسجد قبة الصخرة، في ليلة القدر بشهر رمضان الماضي. وعلى الرغم من ذلك، فإنّها مصرة على مواصلة عملها. تقول إدكيدك لـ"العربي الجديد": "أصبت بحروق في أثناء إسعافي مصابين، في حين أصيبت زميلتي راما الطويل بدورها، عند استهدافنا بقنبلة صوتية بشكلٍ مباشر". ولا تخفي إديكيدك شعورها بحماسة كبيرة تدفعها إلى بذل مزيد من الجهد لتقديم الخدمات الطبية الطارئة إلى المصابين في القدس، لكنّ تلك الحماسة اصطدمت بمحاولات الاحتلال منع عمل المسعفين، وأبرزها تقليل فرص وصولهم إلى الحالات، على الأقلّ في خلال اللحظات الأولى من الإصابة.
تضيف إدكيدك: "أحاول حماية نفسي قدر المستطاع من الضرر المحتمل من جرّاء اعتداءات جنود الاحتلال في خلال عملنا، خصوصاً أنّهم وفي حال وصولنا يطلقون قنابل كثيرة صوبنا. وعلى الرغم من محاولتنا في بعض الأحيان مخاطبتهم من أجل السماح لطواقم الإسعاف بالوصول إلى الحالة، فإنّهم لا يستجيبون". صحيح أنّ انتهاكات الاحتلال تتواصل، إلا أنّ المسعفة الشابة لا تفكر في التخلي عن ذلك، وتؤكد أنّ "المهنة ممتعة على الرغم من صعوبتها. وما يدفعني إلى التشبث بها ضرورة خدمة الناس والمصابين".
في خلال الأعوام الأخيرة الماضية، وبحسب ما يقول العباسي، "رصدت طواقم الإسعاف والطوارئ في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني مزيداً من الإصابات المباشرة في منطقة العيون، وذلك في خلال اشتداد المواجهات مع قوات الاحتلال". ويوضح أنّ "طواقم الإسعاف الميداني نقلت ثلاث إصابات على أقل تقدير في منطقة العيون، بالإضافة إلى إصابات أخرى في مناطق الصدر والجزء العلوي من الجسم عند اشتداد المواجهات. وقد استشهد عدد من الشبان نتيجة هذا النوع من الاستهداف المباشر والقاتل، في حين أنّ آخرين يرقدون في المستشفيات". يضيف العباسي أنّ "الاحتلال يقصد من خلال ذلك إمّا القتل وإمّا إلحاق أكبر ضرر جسدي بالشبان، سواء بإحداث عاهة أو إعاقة دائمة، مع العلم أنّ الإصابات منذ بداية الهبة الشعبية استهدفت بمعظمها الأطراف".
تؤكد جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أنّ ممارسات الاحتلال تنتهك مبادئ وقواعد القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، ويرتقي بعضها إلى جرائم حرب، بحسب المادة الثامنة من النظام الأساسي لقانون المحكمة الجنائية الدولية، إذ إنّ الجمعية راسلت مؤسسات دولية وطالبتها بالتدخل لوقف تلك الاعتداءات. ويقول العباسي: "لم ننتظر انتهاء الأحداث لتوثيق الاعتداءات في حقّ طواقمنا أو مراسلة المؤسسات الدولية، ومنها العاملة في مجال حقوق الإنسان. فمنذ بداية الاعتداءات وجّهنا كتباً ومراسلات للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر وطالبناه بالتدخل". يضيف العباسي أنّه "على إثر ذلك، تدخلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس تحديداً، بهدف التخفيف من وطأة الاعتداءات على طواقمنا هناك التي مُنعَت في أحيان كثيرة من دخول ساحات المسجد الأقصى. لكنّ ذلك كان من دون جدوى، لاعتقاد الاحتلال أنّه فوق القانون ويتعامل بفرض القوة على الأرض".
وتفصّل جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أنّ "التعرّض إلى عمل الجمعية من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي يشكّل مخالفة صريحة للمادتَين 63 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والمادة 17 من البروتوكول الإضافي الأوّل لعام 1977 المكمّل لاتفاقيات جنيف، اللتَين تجيزان للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر مباشرة نشاطاتها وفق المبادئ التي حدّدتها مؤتمراتها". تضيف أنّ "إعاقة نقل الجرحى والمرضى تشكّل انتهاكاً للمادتَين 16 و17 من اتفاقية جنيف الرابعة، أمّا الاعتداء على الأطقم الطبية والمركبات الطبية والمهام الطبية، فهو انتهاك للمواد 15 و21 و16 على التوالي من البروتوكول الإضافي الأول، إلى جانب حظر الهجوم في جميع الأوقات على المشافي المدنية المخصصة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى".
وقد سجّلت الجمعية 36 انتهاكاً من مجموع الاعتداءات والانتهاكات في حقّ طواقمها، منذ بدء الهبة الشعبية التي انطلقت منتصف شهر رمضان حتى يوم الجمعة الماضي. في 13 منها، كانت عرقلة لوصول مركبات الإسعاف إلى المكان المطلوب، وفي 11 منها كانت اعتداءات على مركبات الإسعاف وإلحاق أضرار بها، وفي 11 أخرى كانت اعتداءات على طواقم الإسعاف. إلى جانب ذلك، ثمّة حالة واحدة في قطاع غزة تضرّر فيها زجاج مبنى فرع الجمعية في جباليا ومركز الإسعاف فيه. وعلى الرغم من كل ذلك، تمكّنت طواقم الهلال الأحمر من التعامل مع 6225 حالة في الضفة الغربية والقدس، منها 611 إصابة بالرصاص الحيّ و1705 بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط و3536 بالاختناق بالغاز المسيل للدموع، بالإضافة إلى 13 حالة دهس و353 حالة ما بين ضرب وتعرّض للحروق.