تنتج أزمة النزوح المستمرّ في ليبيا، جراء الاقتتال والحروب، مظاهر اجتماعية جديدة، دفعت إليها قسوة الظروف المعيشية التي يعانيها النازحون، وطول مدّتها. وبالرغم من الاستقرار النسبي بالتزامن مع قلّة التوترات العسكرية، لا يزال آلاف الليبيين يعيشون في مخيمات ومساكن مؤقتة على شكل تجمعات، بالإضافة لعددٍ غير محدد يعيش خارج البلاد إثر العديد من الأسباب التي دفعتهم إلى الهجرة.
ففي حيّ الفلاح في طرابلس، وفي منطقة الأبيار في بنغازي، وأيضاً في أحياء سبها، جنوب البلاد، ومناطق أخرى عديدة، لا يزال الآلاف يعيشون في حالة نزوح طويلة الأمد، ولا يبدو أنّ سلطات البلاد وجدت لها حلاًّ حتى الآن، ما أجبر النازحين إلى تقبّل أوضاعهم والتعايش معها. وتؤكد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في ليبيا أنّ عدد النازحين داخلياً والمسجلين لديها بلغ 316 ألفاً و415 نازحاً. من جهته، يؤكد الناشط المدني الليبي، عقيلة الأطرش، أنّ مشكلة تحديد أعداد النازحين تكمن في أنّ بعضهم يعود إلى منطقته من دون إبلاغ الجهات المعنية ما يجعل الأرقام المعلنة تفتقد للدقة. ويلفت الأطرش لـ"العربي الجديد"، إلى اضطرار النازحين لتكوين علاقات وصِلات جديدة، أجبرتهم عليها الحياة الجديدة التي يعيشونها. فبعضهم انخرط في أنشطة اقتصادية جماعية بهدف مواجهة ظروفه القاسية، كما ارتبطت العديد من الأسر بمصاهرات، بل تكوّنت أيضاً أسرٌ جديدة خلال السنوات الماضية.
مثالاً على ذلك، قرر حمزة الشاملي عدم التخلي عن الصداقة المتينة بجاره أشرف، الذي عاش معه ظروفاً قاهرة، كما يصفها، طيلة ست سنوات. يقول حمزة لـ"العربي الجديد": "أنا وجاري نتحدر من مناطق بعيدة عن بعضها، لكن بسبب ألفة السنوات الست الماضية، ربطت بيننا علاقة أخوة لم توفرها لي حتى أسرتي في منطقتي الأصلية".
ويعيش أفراد أسرتَي حمزة وأشرف، كأسرة واحدة، كما يقول حمزة، مضيفاً: "حتى مراجعة إدارة المدرسة قد أنوب فيها عن جاري إذا كان الأمر يتعلق بأطفاله، وكذلك مصاريف الأسرتين والكثير من المشتركات الأخرى". ويؤكد حمزة أنّه في حال عودتهما إلى مناطقهما الأصلية، في حال زوال الأسباب التي تمنعهما من ذلك، لن يلغي الأمر العلاقة بينهما أو يجعلهما يتناسيان بعضهما.
أما عمران الحويج، فتبدو العلاقة مع أصهاره الجدد أكثر ارتباطاً. ينتمي الحويج إلى منطقة سبها، جنوب البلاد، فيما ينتمي أصهاره إلى منطقة مرزق، التي نزحوا منها إثر نزوحٍ جماعي شهدته المنطقة جراء اشتباكات مسلحة وثارات قبلية. يسكنون حالياً في مخيم للنازحين بمحاذاة سبها. وتعرّف الحويج إلى أسرة أصهاره عن طريق ابنتهم التي تعمل كممرضة في مستوصف بالمدينة، قبل أن يرتبط بالفتاة من خلال الزواج. ورغم قساوة الظروف المعيشية في مخيمات النزوح، إلا أنّ الحويج يراها فرصة مكّنته من التعرف على شريكة حياته وأسرتها، التي باتت تعيش ظروفاً أفضل بسبب المساعدة التي تلقتها من أسرته. يؤكد الحويج أنّ أصهاره قرروا عدم العودة إلى منطقتهم بل الإقامة في سبها، بسبب العلاقات الاجتماعية الجديدة، التي كان النزوح سبباً في نشوئها، خصوصاً وأنّ ابنتهم انتقلت من السكن في المخيم إلى بيت زوجها، الذي يساعدهم أيضاً في الحصول على منزل في المدينة.
في السياق، يؤكد الأطرش، لـ"العربي الجديد"، أنّه رصد ظاهرة المصاهرات في مخيمات النازحين في بنغازي، خصوصاً الأسر التي اضطرت للنزوح من غرب البلاد. ويشير إلى أنّها تكررت بشكلٍ كبير، ويمكنه أن يؤكد حدوث أكثر من 30 مصاهرة. ويلفت الأطرش إلى أنّ أسباب نجاح تلك العلاقات الاجتماعية الجديدة، هي رغبة الأسر في استقرار بناتها، علاوة على حاجتهم للترابط الاجتماعي الأكثر وثاقة لمواجهة قسوة النزوح وظروفه.
وترى الباحثة الاجتماعية، حسنية الشيخ، أنّ لظاهرة النزوح سلبيات وإيجابيات. فمقابل تفكك النسيج الاجتماعي عبر انقطاع الأسر النازحة عن محيطها الاجتماعي الأصلي، الذي قد يُفقد لدى الأولاد أنماط العيش الموروثة، تعتبر أنّ الأوضاع الصعبة للنازحين تدفعهم لخفض حدّة البؤس، والفقر، والانعزال التي يعيشها أطفالهم. تشير الشيخ لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ استمرار بقاء النازحين بعيداً عن مناطقهم، قد يكون خلفه أسباب تتعلق بدمار منازلهم، أو انعدام الأمن، أو الملاحقات المتعلقة بالثارات القبلية والمناطقية، ما يدفعهم إلى البحث عن حلول تتطلب ارتباطاً وثيقاً لتكوين مجتمع جديد.