قبل أكثر من عشر سنوات، باشر الأستاذ الجامعي عبد الملك غنام، وهو أحد سكان بنزرت في شمالي تونس، مشروعه الخاص لإنتاج خرسانة مخصصة للبناء من مخلفات المناجم وبقايا المواد الصلبة. أراد حينها توفير خرسانة بتكلفة أقل من أيّ مواد بناء متوفرة، ولا تحتاج في ذات الوقت إلى إسمنت وحديد لتركيب وبناء جدران، كما تسمح لأيّ فرد بتحقيق حلم تشييد مسكنه بأدنى التكاليف والجهود.
قبل إطلاق المشروع، كان عبد الملك الحاصل على شهادة أستاذ في الحقوق، محاضراً في الجامعة بتونس، وسافر إلى دول عدّة، وشارك في مؤتمرات وندوات علمية مختلفة بعد أن تخصص في التنمية البشرية، وحصل على العديد من الجوائز الدولية، لكنّه رغم كل ذلك ترك التدريس الجامعي كي يتفرغ لتنفيذ مشروعه الخاص.
نصف التكاليف
يقول الأكاديمي التونسي لـ "العربي الجديد": "ارتكزت فكرة المشروع في الأساس على العودة إلى البناء بالطوب الترابي بدلاً من حجارة الآجر الاصطناعية. هذا الطوب مستخلص من عمليات التدوير عبر استعمال مخلفات مناجم وبقايا مواد صلبة ومقاطع من أحجار غير صالحة للاستخدام. أما هدف من المشروع فكان تخفيض تكاليف بناء المنازل بنسبة تصل إلى 50 في المائة، إضافة إلى تقليص الجهد المبذول، وبالتالي تسريع عمليات البناء".
بعد أن أجرى العديد من التجارب، توصل عبد الملك إلى طريقة مبتكرة لتحويل مخلفات المناجم والنفايات الصلبة إلى خرسانة لا تحتاج إلى فرن مثل صناعة الآجر، ولا إلى استهلاك كبير للطاقة من أجل إنتاجها، بل إلى مجرد خليط من المواد الطبيعية مع كميات قليلة من الإسمنت، ليشكل الخرسانة عبر آلية الضغط كي يصبح شكلها متماسكاً من دون الحاجة إلى فرن، ويتطلب تجهيزها فقط وضعها في الشمس والهواء كي تجف.
يقول غنام: "لا يحتاج صنع الأحجار إلى فرن يعمل باستخدام حطب أو غاز أو كهرباء، بل فقط إلى آلة تخلط المواد وتضغط عليها لتشكيل الخرسانة. لذا لا يستهلك صنعها طاقة كثيرة، ويستعمل فيها مخلفات من مناجم لم تعد صالحة لشيء، والتي تخلط ببعض المواد الطبيعية الأخرى مثل الرمال والطين وقليل من الإسمنت. اخترت منطقة غزالة في محافظة بنزرت لتشييد مصنعي، ليكون بعيداً عن التجمعات السكانية، ولأنّ هذه المنطقة تزخر بمخلفات المناجم، وكل ما أحتاجه من مواد أخرى".
مواجهة مع المصانع
انطلق مشروع عبد الملك غنام في عام 2010، وواجه في بدايته عدّة مشاكل خصوصاً خلال اندلاع الثورة حين توقفت جميع الأنشطة في تونس، ما أثّر على عمله لمدّة ثلاث سنوات، لكنه لم يشعر بالإحباط، ولم يستسلم للفشل رغم كل المشاكل التي واجهها والظروف التي مرّت بها البلاد.
كما واجه المشروع صعوبات في إقناع المقاولين والمهندسين، والأشخاص العاديين أيضاً، بمواصفات المنتج الجديد الذي يغيّر من أساليب تنفيذ عمليات البناء، ومن ذلك إمكانية بناء جدار من دون استعمال 90 في المائة من الإسمنت أو الحديد المستخدم عادة، ومن دون الاضطرار إلى طلاء الجدران، والعمل في سوق تسيطر عليه مصانع الإسمنت والآجر.
اللافت في فكرة مواد الخرسانة التي ابتكرها عبد الملك غنام لبناء الجدران هو تركيبها مع بعضها البعض مثل لعبة "الليغو" الخاصة بالأطفال، فالخرسانة تحتوي على أحرف تسمح بتثبيت القطع بعضها ببعض من دون استعمال الإسمنت، ومن دون تركيز أعمدة لتثبيت الجدران. وهي سهلة التركيب، ولا تحتاج إلى أناس حاصلين على تأهيل خاص في تنفيذ أعمال البناء. ما يعني أن أي شخص عادي يستطيع تركيب الجدار بنفسه طالما أنّه لا يحتاج إلى طرق معقدة، ما يعني أيضاً تشييد منزل بأقل التكاليف، ومن دون وجود الكثير من اليد العاملة.
مواصفات آمنة
يجعل تنفيذ مشاريع البناء باستخدام هذه الخرسانات المباني مقاومة للزلازل، بحسب ما تؤكد دراسات وأبحاث، ويمنح الجدار المشيّد جمالية لا تجعله يحتاج إلى طلاء لإخفاء لون الإسمنت، كما تحتوي الخرسانات على ثقوب مخفية تسمح بتمرير أنابيب مياه وغاز وأسلاك كهربائية وتلك الخاصة بالإنترنت بكل سهولة.
وفيما لم يقتنع كثيرون بفكرة بناء جدار من دون استعمال إسمنت، رغم أن الأكاديمي التونسي أثبت أنّ كتلة الخرسانة الواحدة التي ينتجها تستطيع تحمل ضغط حمولة عالية، تقبّل آخرون فكرته، وعملوا على تطبيقها في تشييد منشآت عدة، من بينها نزل سياحي في جزيرة جربة، ومنتجع سياحي أيكولوجي في منطقة بوعرقوب بمحافظة نابل، إلى جانب منشآت أخرى في مناطق مختلفة.
وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في التعريف بفكرة المشروع، وأطلق غنام اسم "صواب" على منتجاته غير التقليدية في ميادين المشاريع العمرانية.
لم يتلقَ عبد الملك أي دعم لتنفيذ مشروعه وإنجاحه، واعتمد على إمكاناته الذاتية، والاستدانة من بنوك، لكنّه يطمح في الوصول إلى أكبر عدد من الناس، وتشييد مصانع في مناطق مختلفة توفر فرص عمل كثيرة، وتزيد قيمة مخلفات المناجم وبقايا المواد الصلبة الناجمة عن هدم البيوت، وأيضاً بقايا استخراج الحجارة والرخام.
ويؤكد أن كل المخلفات والنفايات يمكن إعادة تدويرها لإنتاج مواد بناء جديدة في تشييد مساكن غير مكلفة وجميلة في الوقت نفسه، وقادرة على الصمود لسنوات، وتعتبر مواصفاتها آمنة لصحة الإنسان كونها مبنية من مواد طبيعية غير ضارّة.
يقول عبد الملك غنام: "ارتفاع أسعار مواد البناء، لا سيما أسعار الحديد والإسمنت، ضاعف تكلفة بناء المنزل عشرات المرات خلال السنوات الأخيرة. وبات تشييد مسكن حلم صعب المنال لكثيرين لكن بالتخلي عن عدّة مواد خصوصاً نسبة 90 في المائة من الإسمنت والحديد يمكّن من تقليص تكاليف بناء المنازل، وتسهيل الأمور على الناس في تنفيذ المشاريع التي تخدم حياتهم وتحسنها، لكن ذلك لا يخدم بالطبع مصالح أصحاب الشركات التي تنتج مواد البناء من إسمنت وحديد وآجر، وحتى الشركات المتخصصة في إنتاج دهانات الجدران.