استمع إلى الملخص
- تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة يظهر بأعراض مثل التعلق الزائد ونوبات الغضب، ويوصي الخبراء بالاستعانة بمتخصصين نفسيين لدعم الأطفال والأسر.
- أطلقت وزارة الصحة اللبنانية خطة طوارئ للصحة النفسية لتسهيل الوصول إلى الخدمات والدعم النفسي، مع تفعيل خط ساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار.
كان هول الصدمات الناتجة عن القصف الإسرائيلي والنزوح كبيراً على الصغار والكبار في لبنان. وكثيراً ما يصاب الأفراد باضطراب ما بعد الصدمة لهول ما رأوه، الأمر الذي يتطلب متابعة نفسية
منذ بدء الاشتباكات على الحدود اللبنانية في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ثم التصعيد العدواني في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، يعيش معظم اللبنانيين صدمات نفسية بكافة فئاتهم العمرية، وخصوصاً الأطفال منهم. يروي الطفل تيم (اسم مستعار، 12 عاماً) لـ "العربي الجديد"، ما عاشه جراء الغارات التي استهدفت محيط منزله في قرية كفررمان (قضاء النبطية) ليلة توسع العدوان. يقول: "كنا نعيش توتراً كبيراً في المنزل، وحاولت وأخي إلهاء نفسينا باللعب على الهاتف. فجأة، ضربت إسرائيل منزلاً في الحي، وتكسّر زجاج البيت. عشنا خوفاً من أن نموت تحت القصف".
لم تقتصر ذاكرة تيم على أضرار القصف على المنزل. خلال هربه من البلدة إلى الشوف (أحد أقضية محافظة جبل لبنان)، استهدفت غارة أوتوستراد الزهراني، ما أدى إلى احتراق من فيها. يتابع: "عندما ضُربت السيارة إلى جانبنا، نزلنا من سيارتنا واختبأنا على جنب الطريق، ثم أكملنا طريقنا بخوف ورعب من أن نُقصف. كنت أسأل أمي: هل سنموت؟".
أطفال دون نوم
في المكان الذي نزح إليه تيم، يواجه صعوبة في النوم ونوبات بكاء. يومياً، يسترجع ما حدث معه في منزله الجنوبي وعلى طريق نزوحه. الشيء الوحيد الذي استطاع تيم جلبه من المنزل بالإضافة إلى بعض ملابسه هي وسادته. النوم هو أكثر ما يشعره بالأمان في الوقت الحالي. يقول تيم: "صحيح أننا بأمان الآن، لكن بيتنا في الجنوب أجمل شيء بالنسبة إليّ وإلى أخي".
والدة تيم، التي تعمل مرشدة اجتماعية، لم تستطع التعامل مع طفليها في ليلة الرعب التي قضياها. كانت تتصرّف كأم دون أي إدراك لكيفية التعامل مع الصدمات التي تُدرّب عليها. تقول لـ "العربي الجديد": "اضطررت إلى أن أكون واقعية وأخبرت طفليّ أنه إذ متنا سنموت معاً، وإذا نجونا سننجو جميعاً. وعدتهما بأننا لن نترك بعضنا البعض تحت أي ظرف". عاشت الوالدة حالة صدمة ونكران لمدة 72 ساعة، ولم تستطع إتمام عملها والقيام بالمهام الموكلة إليها. تقول: "كان هاجسي كيف أنقذ طفليّ من الموت، وكيف أهرب بهما. هل سيكون في إمكاني حملهما والركض هرباً من الغارات التي كان تستهدف الطرقات التي مررنا بها".
حتى اليوم، لم تستطع الوالدة أن تُجيب طفليها حول مشهد السيارة الحمراء التي كانت تحترق أمام أعينهما. يسألانها: "هل ما رأيناه حقيقي؟ وهل احترق أفراد السيارة؟". تضطر الوالدة إلى الكذب قائلة: "احترق بعض الكرتون، ولم تكن هناك عائلة".
ردود فعل نفسية وجسدية
بحسب منظمة الصحة العالمية، يصاب الفرد باضطراب الكرب التالي للرضْح أو اضطراب ما بعد الصدمة بعد التعرض لحدث أو مجموعة أحداث خطيرة أو مروعة للغاية. ويتميّز هذا الاضطراب بما يلي: استرجاع الحدث أو الأحداث الماضية الصادمة (الذكريات المزعجة، أو استحضار الذكريات، أو الكوابيس)؛ تجنب الأفكار والذكريات المتعلقة بالحدث (الأحداث) أو تجنب الأنشطة أو المواقف أو الأشخاص الذين يذكّرون الفرد بالحدث (الأحداث)؛ التصورات المستمرة لوجود تهديد وشيك حالياً. وتستمر هذه الأعراض لعدة أسابيع على الأقل وتسبب قصوراً جسيماً في الأداء، ولكن يوجد علاج نفسي فعال لهذه الحالة.
يتحدث مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة ربيع الشماعي عن بعض العوارض التي تظهر على الأطفال، منها "التعلّق الزائد بالأهل، التململ، نوبات الغضب، آلام في المعدة، الانطواء على الذات أو العدوانية أو سرعة الانفعال، الخوف من حدوث الأشياء السيئة مرة أخرى، القلق الزائد على بعض أمور الحياة اليومية، التبّول اللاإرادي أو مص الإبهام، صعوبة في النوم، قلة في التركيز، كوابيس وإعادة تخيّل الحدث الصادم وقت اللعب، تكرار الحديث عما حصل، بالإضافة إلى حساسية مفرطة تجاه الأصوات العالية".
يتابع الشماعي: "في حال لاحظ الأهل وجود تغيرات مفاجئة ومستمرة لدى الأطفال لأسابيع على غرار استرجاع الأحداث، وظهور كوابيس، وتبوّل لا إرادي، وتسارع في نبضات القلب، والتعرّق، والانفعال السريع، والخدر العاطفي والعقلي، والحزن والاكتئاب الشديدين، يجب الاستعانة بمتخصصين نفسيين".
ويوضح الشماعي أنه "يمكن للفرد أن يصاب باضطراب ما بعد الصدمة بعد تعرضه لحدث صادم، وربما يصاب باكتئاب أو قلق أو ذهان". يضيف: "يجب التفريق بين بعض ردات الفعل واضطراب ما بعد الصدمة الذي يحتاج إلى تقييم علمي ودقيق". ويعرف "اضطراب ما بعد الصدمة بأنه حالة يشعر خلالها الشخص بالضيق إثر مشاهدة أو التعرض لحدث خطير أو تهديد لحياته أو لحياة شخص عزيز عليه، ويستمر الشعور بالتوتر والخوف أكثر من شهر بعد وقوع الحدث".
يتابع الشماعي: "يختلف تقييم اضطراب ما بعد الصدمة بين البالغين وبين الأطفال، وخصوصاً ما دون الست سنوات، لأن التعبير عن الصدمة، خصوصاً لدى الأطفال، قد يظهر عندهم من خلال اللعب أو الرسم وما إلى ذلك. لذلك، أشدد على عدم تقييم حالة اضطراب ما بعد الصدمة إلا من قبل المتخصصين".
ويقول شماعي إنه "في أوقات الأزمات، يلجأ الناس إلى وسائل متعددة لمحاولة إدارة التوتر. بعضها مفيد وبعضها غير مفيد". يضيف: "بعض الوسائل المفيدة للتعامل مع التوتر هي التأمل والصلاة والتحدث مع من تحب. أما الطرق غير المفيدة، فهي اللجوء إلى التدخين أو الإفراط في تناول القهوة أو العلاج الذاتي". ويعلّق على تناول الأدوية من دون استشارة طبية بالقول: "على الرغم من أنه مفهوم سبب لجوء بعض الأشخاص إلى استخدام الأدوية لمحاولة تقليل مستوى التوتر لديهم، فنحن ننصح بشدة بعدم القيام بذلك دون استشارة الطبيب".
ذاكرة حربية
في مدرسة العاملية في منطقة رأس النبع (بيروت) التي تؤوي عائلات نازحة، تقول ميرا حمود وهي أم لطفلين: "تعاني ابنتي المراهقة (14 عاماً) حالة من الصدمة والاكتئاب والبكاء المستمر، ليس بسبب أصوات الغارات، بل بسبب فقدانها حياتها ونظامها الطبيعي. تفتقد خصوصيتها وحريتها واستقلاليتها، هي التي خسرت أصدقاء لها". تحاول ميرا التخفيف عن ابنتها، بالقول إنها "مرحلة مؤقتة وسوف تمضي، وسنعود إلى روتين حياتنا قريباً".
ميرا، وهي مدرسة، تحاول في مدرسة النزوح القيام بأنشطة للأطفال الموجودين ومراجعة بعض الدروس. وتشير إلى أن "ذاكرة مصطلحات الأطفال باتت حربية. حين أطلب من الأطفال قول كلمة بحرف القاف بصوت واحد يرددون قصف، وحرف الصاد صاروخ، والغين غارة، والميم موت، وهذا أمر مرعب ويعد صدمة نفسية سوف تترجم في حياتهم ولدى عودتهم إلى مدارسهم". وتختم ميرا حديثها قائلة: "هناك مرحلة صعبة سنعيشها كمدرسين في المدارس تتطلب وعياً من الأهل بضرورة متابعة أطفالهم لدى معالجين نفسيين، للتعامل مع الصدمات التي عاشوها".
في بلدة عين الغويبة في قضاء جبيل، لا تستطيع الأم سارة برو التحكم بردات فعلها والتعامل مع أطفالها بعد نزوحهم من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى مكان آمن. وفي حديثها لـ "العربي الجديد"، تلفت إلى أنها تعاني من أمراض في القلب والأعصاب، موضحة: "لا أستطيع التحكم بانفعالاتي، وأنقل التوتر والقلق لأطفالي، حتى باتوا يشعرون بالخوف مني. أصرخ في وجههم من دون سبب". لا تستطيع سارة أن تخصص وقتاً للاستماع إلى أطفالها وتفريغ مشاعرهم ومساعدتهم كي يتمكنوا من العيش بأمان، بعيداً عن صوت القصف والطيران. تتناول أدوية مهدئة تساعدها على النوم. وتختم حديثها قائلة: "الحل المؤقت للصدمة التي عشناها هي تناول الأدوية من دون متابعة مع طبيب مختص".
خطة وطنية للصحة النفسية
مع تأزم الوضع في لبنان، عمدت وزارة الصحة اللبنانية إلى وضع خطة طوارئ للاستجابة الصحية. وكانت هناك استجابة طوارئ متعلقة بالصحة النفسية أطلقها البرنامج الوطني للصحة النفسية مع جميع الشركاء من نقابات ومنظمات محلية وعالمية. وتتضمن هذه الخطة تنسيق الجهود بين جميع الشركاء لتسهيل وصول الناس إلى الخدمات النفسية، والدعم النفسي، واستجابة لطوارئ حالات الصحة النفسية. وتشمل الخطة المستشفيات، ومراكز الرعاية الصحية الأولية، والدعم النفسي في مراكز الإيواء، وتأمين استمرارية خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي وضمان توفّر الأدوية النفسية والوصول إليها لجميع المستفيدين القدامى والجدد.
يضاف إلى ما سبق إرشاد المواطنين للخط الوطني الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار 1564، بالتعاون بين البرنامج الوطني للصحة النفسية وجمعية "امبرايس" Embrace، وهو بخدمة المواطنين 24 ساعة على 24 ساعة، سواء للدعم النفسي عند الحاجة أو لتوجيه الناس لأقرب مركز خدمات صحة نفسية من محيطهم الجغرافي.
إصغاء إلى الأطفال
وتتحدث نقيبة النفسانيين في لبنان الدكتورة ليلى عاقوري ديراني، لـ"العربي الجديد"، عن دور الأهل بالتعامل مع عوارض اضطراب ما بعد الصدمة، أبرزها "السماح للطفل بالتعبير عن مشاعره وأفكاره، والسماح له بالحزن والبكاء والغضب، وعدم مخاطبة الأطفال بكلمات من قبيل: بسيطة، خلص ما تفكر، روح إلعب. وفي حال تعرض الطفل لإصابة جراء الحرب، لا يمكن كبت مشاعره والألم الذي يعيشه، بمقولة: "أنت بطل وما في وجع".
وعلى الرغم من صعوبة التعامل مع الأطفال في مراكز الإيواء والتغير المفاجئ في حياتهم، تشير الديراني إلى دور الأهل في محاولة إعادتهم إلى نوع من الحياة الطبيعية قدر المستطاع، إضافة إلى استعمال مصطلحات واقعية ودقيقة مع ظروفهم الحالية، وعدم الكذب عليهم".
وتشير الديراني إلى أن نقابة النفسانيين "شكّلت وحدة طوارئ منذ اندلاع الحرب العام الماضي، ثم تفعلت الوحدة في سبتمبر/ أيلول 2024. والنفسانيون يتدخلون في المستشفيات، مع الأفراد، وفي مراكز النزوح بالتنسيق مع الوزارات وتجمع النقابات الصحية. ولدينا خط ساخن للاتصال ولتأمين الحاجات الطبية اللازمة".