عبد الله يوسف عكيلة... بروميثيوس الذي أحرقته النار! (11)

17 أكتوبر 2024
أصيب كثيرون بحروق في غزة (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي النص شهادات مؤلمة لناجين من الحرب في غزة، حيث فقدوا عائلاتهم ومنازلهم وأطرافهم، مع تسليط الضوء على محاولاتهم لفهم ما حدث بعد السابع من أكتوبر.
- يصف تجربة طفل يبلغ 13 عامًا، اضطر للنزوح مع عائلته بسبب القصف المستمر، وعاشوا في ظروف صعبة مع نقص في الماء والطعام والكهرباء، وتعرضوا للقصف أثناء محاولتهم الهروب.
- يعبر الطفل عن الألم والمعاناة بعد إصابته بحروق وفقدان أفراد عائلته، ويصف محاولات والده لإنقاذهم وسط القصف، متسائلًا عن سبب استهدافهم رغم وجودهم في حافلة تابعة للأمم المتحدة.

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة.

قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

 

عمري 13 سنة، ويعملُ أبي موظفًا إداريًا في مطعمٍ إضافةً لعمله مصورًا صحافيًّا، أمّا أمي فقد أنهت دراستَها الجامعيّةَ في اللغةِ العربيةِ. لديَّ أخٌ صغيرٌ يبلغُ من العمرِ ستَّ سنواتٍ، وأخي الأكبر عمره اثنانِ وعشرونَ عامًا وأختي تسعةَ عشر عاماً. كنّا نعيشُ بسعادةٍ وكرامةٍ معًا. في فجرِ السابعِ من أكتوبرَ، سمعتُ الصواريخَ تنطلقُ من غزةَ. اعتقد الناسُ أن فلسطينَ ستتحررُ، أنا أستمعُ إلى أحاديثهم رغم أنّي لا أفهمها تماماً. ومن ثم اندلعتِ الحربُ، بدأ الإسرائيليون قتلنا وتهجيرُنا. بقيتْ عائلتي في البيتِ، لم نغادرْ رغمَ القصفِ المستمرِّ. وصلَ الإسرائيليونَ إلى شارعٍ قريبٍ منا، كانوا يقصفونَ البيوت دون توقف ويرمونَ مناشيرَ تطالبنا بالرحيلِ من الشمالِ إلى الجنوبِ. في النهايةِ، قررنا النزوحَ إلى منزلِ عمي في حيِّ الصحابةِ شرقَ غزةَ. نزحنا إلى هناكَ، لكنَّ القصفَ لم يتوقفْ، ولم يختلفِ الوضعُ كثيرًا. ولأنّ البيتَ كان قريبًا من الحدودِ مع الإسرائيليينَ، فضَّل أهلي الانتقالَ إلى بيتِ عمي. الحياةُ هناكَ صعبةٌ جدًا، كنتُ أمشي لمسافاتٍ طويلةٍ للحصولِ على الماءِ للشربِ. أحملُ الماءَ لأهلي يوميًا. في بيتِ عمي، هناك أكثر من خمسةٍ وأربعينَ شخصًا في مبنى واحدٍ، مع نقصٍ في الطعامِ والماءِ، وانعدامِ الكهرباءِ. مرَّت الأيامُ بصعوبةٍ، حتّى عندما أعلنوا عن هدنةٍ لمدةِ سبعةِ أيامٍ؟ هل استمرتِ الهدنةُ لفترةٍ أطولَ! لا أذكرُ تمامًا تفاصيلَ تلكَ الفترةِ.

كان ذهني مشوشًا، وما أذكرهُ بوضوحٍ هو أنّ القصفَ لم يتوقفْ. رأيتُ الأبنيةَ تنهارُ من حولي، عشنا تحتَ هذا الخوفِ المستمرِّ. لم يكنِ القصفُ عاديًا، بل استخدموا الأحزمةَ الناريةَ، مشاهدُ الدمارِ مرعبةٌ. شعرتُ بالخوفِ، لكني لم أكنْ أعبّرُ عن ذلكَ أمامَ عائلتي حفاظًا على هدوئهم. مع بدايةِ الهدنةِ، قررَ أبي أننا لن نخرجَ من المنزلِ مهما حدثَ، حتّى لو اقتحمَ الجيشُ الإسرائيليُّ المنطقةَ برًا. أُختي خائفة، كانت تبكي وتريدُ النزوحَ، وفي النهايةِ استجابَ أبي لأن الأخبارَ كانت تؤكدُ أنّ الاقتحامَ البريَّ قادمٌ، وأن الإسرائيليينَ يقتلونَ كلَّ من يصادفونه. قررنا المغادرةَ في آخرِ يومٍ من الهدنةِ، عند الساعةِ السابعةِ صباحًا بدأ القصفُ، فخرجنا من المنزلِ.
أخي الأكبر بقيَ مع عمي في معسكرِ الشاطئِ، حيثُ أصرَّ عمّي على البقاءِ في دارهِ حتّى الموتِ، ورفضَ أخي الأكبرُ تركَه. أمي مُصمّمةٌ على الخروجِ، لكنّها في الوقت نفسه خائفةٌ جداً. أنا رغبتُ في البقاءِ مع أخي، لكنني لم أتحدثْ ولم أقلْ. أنا الابن الأصغرَ، نظراتُ أمي كانت ستكفي لجعلي أصمتُ وأمشي معهم. وفي كلِّ الأحوالِ، كنّا سنخرجُ، لأنّ الإسرائيليينَ أرسلوا أوامرَ واضحةً بأنّ من يبقى سيُقتلُ. حملنا أمتعتَنا، أنا وأعمامي وعمّاتي، وركبنا في حافلةٍ تابعةٍ للأونروا. كنّا ستةَ عشرَ شخصًا في حافلةٍ تحملُ شعارَ الأممِ المتحدةِ وعلمَها. طلبَ أبي من أقاربِنا انتظارَنا، هو يريد الخروجَ معنا، لكنّه فضَّل البقاءَ مع جدتي المقعدةِ، وقال لنا إنه سيلحقُ بنا في الدفعةِ الثانيةِ. هكذا، تركْنا أبي وذهبنا وحدنا.

ركبنا الحافِلَةَ وانطلقنا، القصفُ مستمرٌ حولنا. قالوا لنا إنَّ الحافِلاتِ التابعةَ للأونروا لن تُقصف، وكنتُ أرى وأسمع القصفَ من حولي. أذكرُ أنني كنتُ أرتجفُ من الخوف، الحربُ تحاصرنا من كلِّ جانبٍ. عندما وصلنا إلى ملعبِ فلسطينَ، تعرضنا للقصفِ، أطفالٌ ونساءٌ داخل الباصِ. وكان السائقُ موظفًا من الأونروا. لم تكن قذيفةً واحدةً التي سقطت علينا، بل عدةُ قذائفَ! الجميعُ احترق، أعمامي، أمي، وكلُّ أهلي! كنتُ في قلبِ الباصِ عندما سقط الصاروخُ، رأيتُ لونًا أحمرَ يغمرُ كلَّ شيءٍ. أذكرُ أنني بدأتُ أضربُ جسدي، لم أفقدْ الوعيَ، أخذتُ أضربُ وجهي المحروق، معتقدًا أنني في كابوسٍ وأردتُ أن أستيقظَ، ولم يكن كابوسًا. حدث كلُّ شيءٍ في رمشةِ عينٍ، كان الاحتراقُ كبيرًا والانفجارُ هائلًا!
كنّا قد حملْنا معنا بعضًا من أثاثنا من البيتِ، بما في ذلك جرةُ غازٍ وعبوةُ بنزينٍ، وعندما قصفونا، انفجر الباصُ بأكمله. رأيتُ أمي تحترقُ أمامَ عينيَّ! سمعتها تنطقُ الشهادةَ، وأختي كذلك ماتتْ أمامي، رأيتها تحترق. زوجةُ عمي وابنتُها احترقتا أيضًا، متْنَ احتراقًا داخلَ الباصِ. كان هناك قناصٌ خلفنا، وطائرةُ "الكوادكابتر" فوقنا، القناصُ أطلق النارَ على الباصِ المحترق، وقصفتنا الطائرة. ستة عشر شخصًا في الباص، مات أربعةٌ، وخرجنا نحن الاثني عشر الباقين أحياءً، أحياءٌ ولكن مُحترقون.

أذكرُ أننا مشينا ونحن نعاني من الحروقِ الشديدةِ حتّى وصلنا إلى سيارةِ الإسعافِ. لم أشعرْ بالآلامِ فورًا من شدّةِ الضربةِ، لكنّ الألم بدأ عندما صعدنا سيارةَ الإسعافِ. كان ذلك في يومِ الرابعِ من ديسمبر. حاولتُ أن أواسيَ أخي الصغيرَ الذي يبلغُ ستَّ سنواتٍ، كنتُ أقول له: "هذه لعبةٌ"، محاولًا التخفيفَ عنه. أخذونا إلى مستشفى المعمداني، لكن لم يكن هناك أدويةٌ ولا أيُّ شيءٍ يساعدنا. وجهي احترقَ وانتفخَ وصارَ لونهُ أسود، وأخي كان غائبًا عن الوعي، المستشفى لم يكن يبدو كمستشفى. وجهي يؤلمني بشدة، وعندما رأيتُ شكلي شعرتُ بالرعب. أخي جاد، حالته أسوأَ، لديه ثلاثة كسورٍ في رجليه وحروقٌ شديدة. عندما وصلَ أبي إلى المستشفى، لم يتعرفْ عليَّ في البداية. قالوا له: "هذا ابنك!"، أخذ ينظرُ إليَّ مذهولًا. ثمّ ذهبَ ليرى أخي، وعاد يبكي. أخبرني بذلك لاحقًا. كنتُ أسمعُ ما يدورُ حولي بصعوبةٍ، والألم ينهشُني. أخي الصغيرُ كان يطلبُ الماءَ باستمرار، وأبي ينظرُ إليه بعينين مليئتين بالأسى. من طرفِ عيني، رأيت ما يحدث. أخي جاد كان كتلةً لحميةً محترقةً، سمعته يطلب أن يرى أمّه. لم أكن أفهمُ ما يجري حولي بوضوحٍ. في اليوم التالي، شعرَ أبي وهو يمسكُ بيدي أخي أنّ يديه باردتان، قال الطبيبُ إنّ أخي قد مات. بالكاد كنتُ أستطيعُ سماعَ ما يحدث، الآلام تقتلني، حروقُ وجهي وجسدي والشظايا المؤلمة تعيقني عن التفكير، لم أستطعْ أن أودعَ أخي كما كنتُ أتمنى. بعد وفاةِ أخي ودفنه، عاد أبي إلى موقعِ الباصِ المحترقِ، حيث بقيتْ أمي وأختي وزوجةُ عمي وابنتُها طوالَ الليلِ يحترقون. لم يتمكنْ أحدٌ من الاقترابِ من الباصِ المحترقِ بسببِ استمرارِ القصفِ والقنصِ. ومع ذلك، عندما ماتَ جاد ودفنوه، قررَ أبي، كما أخبرني لاحقًا، أن يعودَ إلى الموقعِ رغمَ القنصِ والقصفِ لانتشالِ جثثِ أمي وأختي والعائلة. وجدهم قد تفحموا بالكاملِ. دفنوا أمي وأختي وزوجةَ عمي وابنتَها في كفنٍ واحدٍ. أخبرني أبي أنهم كانوا حتى أقلَّ من كفن، مجرد كتلٍ محترقةٍ صغيرةٍ. هكذا دفنوهم معًا، أشلاءٌ متفحمةٌ بفعلِ النيرانُ والدمار.

أطفال يعيشون حرباً تلو الأخرى (مجدي فتحي/ Getty)
أطفال يعيشون حرباً تلو الأخرى (مجدي فتحي/ Getty)

عادَ أبي إليَّ بعدَ دفنهم، الألمُ يشتدُّ عليَّ، وليس هناك مسكناتٌ، ولم أكن قد رأيتُ وجهي بعد. لاحقًا اكتشفتُ أنني مشوهٌ لهذه الدرجة. الحروقُ شديدةٌ وصعبةٌ، والوجعُ لا يُحتمل. أصعبُ شيءٍ في الحياةِ هو الحروقُ، ودرجةُ حرقي كانت ثلاثةً ونصف. ظلَّ أبي لأيامٍ يبحثُ عن أدويةِ الحروقِ، كنّا تسعةَ مصابينَ بحروقٍ شديدةٍ، لكن تمَّ إخراجنا من المستشفى، لأنّه ليس هناك أيُّ فائدةٍ من بقائنا. لا توجدُ أدويةٌ، ولا مسكناتٌ، ولا حتّى أسِرَّةٌ لنا، ولا مكان نستطيعُ البقاءَ فيه. استمرَّ أبي في البحثِ حتّى وجدَ شاشًا ومحاليلَ طبية بصعوبةٍ. بدأنا نشمُّ رائحةَ أجسادنا المتحللةِ، كان ذلك عذابًا لا يُطاق. عدنا إلى معسكرِ الشاطئِ، إلى بيتنا! هل يمكنكِ تصديقُ ذلك؟ ليس لدينا مكانٌ آخرُ نذهبُ إليه، فعدنا إلى المكانِ الذي هربنا منه. حاولَ أبي معالجةَ جروحنا، لكن مع استمرارِ القصفِ وغيابِ الأدويةِ والطعامِ والشرابِ، شعرنا بأننا سنموتُ جميعًا. لكنّ الخوفَ الأكبرَ كان من العفنِ، أن تتعفنَ أجسادنا. تمنيتُ الموتَ حينها، وصرتُ أدعو اللهَ أن أموتَ.

اعتقدتُ أن القصفَ سيقتلنا، انتظرتُ الموتَ، لكنّه لم يأتِ. قررَ أبي في النهايةِ أن نذهبَ إلى معبرِ رفح في محاولة لإنقاذي. قال إنّ علينا أن نمشيَ إلى المعبرِ، لديه صديقٌ صحافيٌّ يريد مساعدتي في العلاجِ. أخبرنا هذا الصديق أن نخرجَ بين التاسعةِ صباحًا والثانيةِ ظهرًا، لكنّ الناسَ من حولنا حذرونا، وقالوا إننا سنموتُ تحتَ القصفِ أو القنصِ. ومع ذلك، أصرَّ أبي. خرجنا مشيًا، وأوصلونا إلى جامعِ الشيخِ عجلين باتجاهِ الجنوبِ. ذهبنا أنا وأبي مشيًا، نحملُ علمًا أبيضَ. كنتُ ملفوفًا بحروقي، لا أستطيعُ فهمَ كيف تمكنتُ من المشي! كنتُ خائفًا من الشمسِ، لكن السماءَ كانت غائمةً، فتابعنا السيرَ. مررنا بحاجزٍ إسرائيليٍّ، ومشينا ساعاتٍ طويلةً، استمر القصفُ من حولنا. رأينا أشياءَ مرعبةً، وأبي كان يحملُ أربعَ حقائب والعلمَ الأبيضَ. في النهايةِ، وصلنا بعدَ عبورِ وادي غزة، وجاءَ ابنُ عمتي ليأخذنا إلى المعبرِ.

قضايا وناس
التحديثات الحية

ما زلتُ لا أفهم ما حدث لنا! كان علمُ الباص أزرقَ، علمُ الأونروا، اعتقدت أنهم لن يقصفوا باصًا تابعًا للأمم المتحدة. لكنني كنتُ مخطئًا. لماذا كان القناص يصوّب إلى الجثث المحترقة! لماذا كانت الطائراتُ "الزنانة" تعاود قصف الباص! أنا ما زلتُ صغيرًا كما يقولون، عمري 13 عامًا ونصف الآن، لكنني أفهم الكثير. رأيتُ الشهداء، رأيتُ الموتى والجرحى، لا يمكنني وصف المشهد كاملا. الأصعبُ رؤيةَ من فقدوا أطرافهم، لا يمكنني وصف الألم الذي شعرتُ به. ربّما يجب أن تزوري غزة لتشعري بما حدث، أنا رغم عمري لم أعد طفلًا. ماذا يعني أن أفقد أهلي؟ ماذا يعني أن يموت أخي جاد محترقًا هكذا؟ رأيتُ أمي بعينيّ وهي تحترق. حاولتُ إنقاذها، لكنّ الباب الكهربائي لم يفتحْ! السائقُ هرب من الباص، ولم أتمكن من فتح الباب. عمي رمى ابنه من الشباك، وأنا نجوتُ لأنّ عمي فتح الباب في النهاية، لكن الصاروخ كان قد سقط على أمي وأختي واحترقتا، لقد كانتا في الجهةِ التي سقطَ فيها الصاروخ.

صَمْت...

وُلدتُ في الحرب، وكان ما نعيشه من قصف يبدو "عاديًا" بالنسبة لي. لم يخطر في بالي أبدًا أنهم سيحرقوننا هكذا! لقد شهدتُ حربًا قبل هذه، أعتقدتُ أنني معتادٌ على القصف. تعرفين! في غزة، لا يوجد أطفال؛ نكبر قبل أواننا. انظري إليّ، وجهي محروق، جسدي كلّه مليءٌ بالشظايا. لا أستطيعُ الحديث عن الألم، هو غير قابلٍ للوصف! لا يوجد تخدير، عشتُ كلّ الألم، أنا أعرف الآن تماماً ما هي "جهنم". تمنيتُ الموتَ، لكنّي لم أمتْ. ما زلت تقولين إنني طفل! أنا لا أفهم ما يعنيه ذلك. أفكر الآن في أخي الباقي في غزة، وأعرفُ أنّ وجهي المحترقَ لن يعودَ طبيعيًا أبدًا. انظري، هذه صورتي قبل الحريقِ، هل تصدقين! كنتُ ولدًا جميلًا سعيدًا.

المساهمون