عام على فاجعة درنة... الأهالي يكافحون وتباطؤ رسمي

10 سبتمبر 2024
ينظر إلى الدمار الذي خلفته فيضانات درنة (محمود تركية/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **إعادة الإعمار والتحديات**: بدأت مشاريع إعادة الإعمار في درنة ببطء تحت إشراف "صندوق إعمار درنة"، وتشمل بناء جسور ووحدات سكنية، لكن التقدم محدود وسكان المدينة قلقون من استدامة هذه المشاريع.

- **الوضع الإنساني والمفقودين**: لم تعلن السلطات عن الرقم النهائي للضحايا، مع تقديرات بآلاف القتلى والمفقودين. الجهود مستمرة للتعرف على الجثث، والنازحون يعيشون في ظروف صعبة معتمدين على المساعدات.

- **التحديات القانونية والاجتماعية**: تواجه المدينة عراقيل قانونية تتعلق بوضع المفقودين وتعويضات المنازل المدمرة، مع مخاوف من استغلال قضية إعادة الإعمار لتحقيق مكاسب سياسية.

يحاول سكان مدينة درنة تنفس الصعداء بعد مرور عام كامل على الكارثة التي ألمت بهم جراء العاصفة دانيال، والتي تسببت بسيول وفيضانات اجتاحت مدينتهم، وأدت إلى سقوط آلاف الضحايا والمفقودين وتشريد آخرين. وفيما تظهر مشاريع البناء التي أطلقها "صندوق إعمار درنة" بداية العام الجاري في مختلف أجزاء المدينة، كالجسور، وفتح مسارات داخل أحياء وسط المدينة التي جرفتها السيول بالكامل بهدف البدء في إنشاء عمارات سكنية، إلا أنها لا تزال في طور البداية بحسب شهادة عدد من سكان المدينة. 

ورغم مرور عام، لم تعلن سلطات حكومة مجلس النواب، التي تسيطر على شرقي البلاد، الرقم النهائي لضحايا السيول، وكان المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد أعلن أن عدد القتلى بلغ 4120، من  دون أن يتحدث عن أعداد المفقودين والمشردين. فيما قالت منظمة الصحة العالمية إن عدد القتلى هو 4333، بالإضافة إلى 8500 مفقود و42,245 مشرد فقدوا مساكنهم.
وباستثناء الجهود التي بذلها سكان المدينة في ترميم منازلهم ومحالهم التجارية المتاخمة لمجرى الوادي، لا يزال وسط المدينة الذي جرفته السيول بالكامل تحت سيطرة قوات الأمن التابعة لقيادة مليشيات شرق ليبيا (مليشيات مرتبطة باللواء المتقاعد خليفة حفتر)، التي تعمل على تأمين الشركات الأجنبية العاملة في درنة لتنفيذ خطط الإعمار التي يشرف عليها صندوق إعمار درنة التابع للقيادة نفسها.
وأعلن الصندوق، عبر موقعه الرسمي، عن العديد من مشاريع الإعمار في المدينة، منها خمسة جسور لربط ضفتي المدينة التي يشقها الوادي إلى نصفين، بالإضافة إلى إخضاع منافذ المدينة الرئيسية، كالمدارس وعدد من المساجد والمقار الحكومية، للصيانة. كما أعلن عن تعاقده مع شركات أجنبية أخرى لتنفيذ مشاريع سكنية. لكن عدداً من سكان المدينة يقولون لـ"العربي الجديد" إنها مشاريع لا تزال قائمة بنسبة إنجاز قد تصل إلى النصف فقط.

خلال علمليات الإنقاذ والإغاثة عقب الفيضانات (محمود تركية/ فرانس برس)
خلال علمليات الإنقاذ والإغاثة عقب الفيضانات (محمود تركية/ فرانس برس)

ويقول الناشط المدني والحقوقي عقيلة الأطرش إن الحكومة في الشرق تسابق الوقت لاستكمال مشروع سكني في طرف المدينة الشرقي، يضم ألفي وحدة سكنية، وكانت تعمل على الإسراع في إنجازه لافتتاحه في الذكرى الأولى للكارثة، مرجحاً عدم قدرة الشركات العاملة على استكمال المشروع في المدة المحددة. ويتحدث عن تقدير سكان المدينة للجهود التي يبذلها صندوق الإعمار لإعادة الحياة إلى المدينة، وإن كان يخشى عدم إقامة هذه المشاريع على أسس فنية صحيحة بسبب الإسراع في إنجازها. ويؤكد المهندس المدني جبريل المهيوب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "مدرسة تضررت من السيول وأزيلت بالكامل أعيد بناؤها في غضون ستة أشهر، بالإضافة إلى أحد المساجد. هذه السرعة تشكك في سلامة هذه المباني وتزيد من احتمال تضررها مجدداً وسريعاً".
ويُعرب الناشط المدني والحقوقي عقيلة الأطرش عن قلقه إزاء استغلال قضية عودة الحياة إلى مدينة درنة لتحصيل مكاسب سياسية، موضحاً أنه "مع مرور الوقت، يتضح ميل من يقود ملف الإعمار إلى تحقيق مكاسب سياسية، مستغلاً قبضته الأمنية على السكان لإخماد أي صوت يعارض هذه السياسات، ويشجعه على ذلك تضاؤل الشعور الإنساني الذي كان ظاهراً ومعلَناً في الأشهر الأولى للكارثة، وكان يشكل رأياً عاماً ضاغطاً يمكن أن يكشف عن أي تجاوز".
ويظهر استمرار آثار كارثة السيول في المدينة بسبب الغموض المتعلق بالمفقودين. على الرغم من الرقم المعلن من قبل منظمة الصحة العالمية، إلا أن الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين لا تزال تعلن عن فتح ملفات جديدة لهم، وآخرها فتح 81 ملفاً جديداً نهاية مايو/ أيار الماضي. ولا تزال دارة قيد الأهالي بالهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين تعمل حتى الآن، فيما تتولى فرق التعرف على هوية الجثث المنتشلة من المقابر الجماعية تحليلها للكشف عن هوياتها.
ويرتبط عزوف الأهالي على فتح ملفات لمفقوديهم بالآثار النفسية التي يعيشونها، كما يقول النازح من درنة إلى طرابلس الصالحين أبو مريم، هو الذي فقد غالبية أفراد أسرته ومنزله. ويشير إلى جانب آخر يتعلق بعدم وجود من يبلغ عن الأسر التي فقدت بالكامل ولم يبق منها أحد. ويوضح أبو مريم، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه لا يتصور أن الحياة يمكن أن تعود إلى المدينة من دون أقاربه وجيرانه الذين غيبتهم السيول، موضحاً أن أحياء الكنسية ووسط البلاد وشارع البحر والصحابة اختفت تماماً، وما بقي منها تغير بشكل كبير، وسكانها أصبحوا نازحين.  
وبنبرة يغمرها الأسى، يؤكد أبو مريم، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه لم يعد راغباً في العودة إلى مدينته بعدما فقد أقاربه، مشيراً إلى أن هذه الرغبة تتملك غيره ممن يشاركونه النزوح في طرابلس. يضيف: "لا معنى للحياة وسط ذكريات قاتمة وموت وفقدان وصور خزنتها ذاكرتي عن تلك الأيام. فالبحر الذي كان يقابل منزلي وكان جزءاً من جمال المدينة أصبح اليوم يحمل في جوفه أسرار ومصير أقاربي". 
وحول ظروف عيش النازحين من سكان المدينة في طرابلس، يوضح أبو مريم أنهم وآخرين من النازحين في بنغازي ومصراتة ومناطق أخرى يعولون على جهدهم الخاص في توفير مصادر العيش، مضيفاً أن "قلة منهم لديهم قدرة على شراء بيوت، وأكثرهم يعيش في شقق بالإيجار ويعتمدون على الإعانات المالية التي تقدمها بعض الجهات الخيرية. بعض النازحين افتتح محلاً أو مقهى أو مطعماً، وهناك من يعمل في مهن خاصة كورش إصلاح السيارات وغيرها".  

يصعب على بعض النازحين العودة إلى درنة (محمود تركية/ فرانس برس)
يصعب على بعض النازحين العودة إلى درنة (محمود تركية/ فرانس برس)

وبخلاف أبو مريم، تمكنت حليمة أبو شرتيلة من شراء منزل صغير بمساعدة أقاربها في منطقة القبة القريبة من درنة، في انتظار استكمال مشاريع الإنماء لتعود إلى المدينة على الرغم من أنها فقدت شقيقها الوحيد الذي كانت تعيش معه.
وبين الحين والآخر، تزور أبو شرتيلة درنة. وتؤكد في حديثها لـ"العربي الجديد" أنّ جهود الأهالي أعادت جزءاً من الحياة إلى أحياء الساحل، فيما باتت أحياء أخرى تعج بالحياة، بعدما أصلح سكانها منازلهم وافتتحوا محالهم التجارية. وتشير إلى أن عودة غالبية المصارف التجارية للعمل كانت عاملاً أساسياً لعودة الحركة.  
ورغم إصرارها على العودة، إلا أن أبو شرتيلة تشارك أبو مريم في أن "معنى الحياة السابق للمدينة لن يعود"، لارتباطه بعوامل تاريخية وثقافية كانت تشتهر بها المدينة. كانت كثيرة التردد على مرافق المدينة الثقافية والأدبية التي جرفت السيول أكثرها، موضحة أن المسرح وبيت درنة الثقافي كانا من المعالم الرئيسية في حي وسط البلاد قبل أن تقتلعهما السيول تماماً. وترى أن "معنى إعادة الحياة" ربما يكون من خلال إعادة هذه الأنشطة وإحياء ذكرى الناشطين فيها، الذين صاروا اليوم ضحايا.
من جهته، يتحدث المواطن عقيلة الأطرش عن عراقيل تتعلق بعودة الحياة إلى المدينة، ومنها ما يتعلق بالإشكاليات القانونية.
ويوضح أن تلك الصعوبات القانونية ترتبط بعدم تحديد الجهات التشريعية لوضع المفقودين حتى الآن، على الرغم من اقتراح مسؤولي بلدية درنة وقضاتها والناشطين الحقوقيين فيها على مجلس النواب تعديلاً في هذا الإطار. يضيف أن "مجلس النواب لم يبت في شأن المفقودين. وإن كان هذا التعامل يزيد من تعقيد المشكلة القانونية، إلا أنه دفع غالبية العائلات في الوقت نفسه إلى فتح ملفات لدى هيئة المفقودين على أمل الحصول على شهادات وفاة قطعية".
ويلفت الأطرش إلى صعوبات أخرى قد تطرأ على مستقبل الحياة في المدينة، تتعلق بالتعويضات التي صرفتها السلطة لمن فقد منزله وسيلةً لوضع يدها على الأملاك. ويقول إن "عدم تحديد الملكيات الخاصة سيعيق شرعية تسلم الأهالي مساكنهم الجديدة". ويسأل: "ماذا عن مشاريع الأسواق والمحال الكبرى في وسط المدينة التي يعمل صندوق الإعمار على إنشائها بصفتها مشاريع استثمارية من دون تحديد الملكية؟". ويشير إلى أن فرض السلطات مخطط المدينة الجديد بالقوة والترهيب "أقل أضراره ضياع فرصة ترميم نسيج المدينة الاجتماعي ومحاولة إعادة ما يمكن إعادته".

وأدانت السلطات القضائية نهاية يوليو/ تموز الماضي 12 مسؤولاً بسبب انهيار سدي درنة اللذين تسببا في كارثة الفيضانات، وأصدرت أحكاماً تتراوح ما بين السجن مدة تسع سنوات و27 سنة، فيما برأت أربعة آخرين. هنا، يرى الأطرش أن القضية ليست معاقبة المسؤولين عن إهمال صيانة السدين فقط. فتعامل السلطات ومؤسسات المجتمع المدني "غير مسؤول"، طارحاً عدداً من التساؤلات، منها: "ما فائدة معاقبة المسؤولين وترك المدينة من دون إعادة بناء السدين ليعيش أهلها خوفاً متكرراً من عودة السيول؟ أين ذهب الحديث عن حملات الدعم النفسي التي كانت كبيرة في الأشهر الأولى والآن لا وجود لها؟ ماذا عن الأسر التي تواجه صعوبة في الوصول إلى رواتبها ولا تجد من يقدم لها العون، كذلك الأيتام الذين ما من عائل لهم بعدما فقدوا ذويهم؟ ماذا عن مشكلة تلوث المياه والآثار البيئية المحتمل أن تنفجر في أي وقت إذا صح شك الكثير من السكان؟ وماذا عن إعادة الإعمار التي تجرى على أنقاض الجثث حالياً؟". 

المساهمون