تتشارك ثلاثة أجيال من عائلة الأسود تجربة اللجوء في تونس. في البداية، اضطر الجيل الأوّل إلى ترك فلسطين في خمسينيات القرن الماضي ليتحوّل بالتالي الأبناء والأحفاد إلى لاجئين بالوراثة، لا يعرفون أين يكون مستقرّهم الأخير. في ضاحية مقرين في العاصمة التونسية، تتقاسم الجدة وفيقة حدود (68 عاماً) البيت مع ابنتها إخلاص الأسود (40 عاماً) وحفيدها رأفت (13 عاماً)، وثلاثتهم يحملون صفة لاجئ ويعيش كلّ واحد منهم التجربة على طريقته.
بدأت رحلة لجوء عائلة الأسود في سورية، بعدما كانت العائلة ذات الأصول الفلسطينية قد هُجّرت من وطنها. هناك ولدت وفيقة وعاشت في مخيم اليرموك وتزوّجت وأنجبت أبناءها وحصلت على الإقامة الدائمة مع الاحتفاظ بصفة لاجئة. تخبر "العربي الجديد" أنّه "مع اشتداد الأزمة السورية في عام 2012، اضطررت إلى الهرب من ويلات الحرب، فقصدت الجزائر وأقمت فيها كمرحلة أولى مع أربعة من أبنائي وعائلاتهم، فيما تمكّن أبنائي الباقون من الوصول إلى ألمانيا ليكونوا الأوفر حظاً". تضيف وفيقة أنّه "بعد ستة أشهر من وصولنا إلى الجزائر، وكانت ظروفنا صعبة هناك، اضطررنا مجدداً إلى الرحيل والبحث عن مكان أفضل، فوصلنا إلى تونس". لكنّ عدداً من أبنائها قرّر البقاء في الجزائر، فازدادت العائلة تشتتاً... ما بين ألمانيا والجزائر وتونس.
منذ عام 2014 تقيم اللاجئة الستينية في تونس، لكنّها لا تخفي صعوبة التأقلم مع وضعها الجديد، على الرغم من مرور نحو سبعة أعوام. تقول إنّ "عامل السنّ يجعل من حياة اللاجئ أمراً صعباً، لا سيّما أنّني أعاني من أمراض مزمنة، منها السكري والقلب والحساسية". وتشير إلى عدم قدرتها على تحمّل نفقات العلاج، بسبب صعوبة الحصول إلى الخدمات الصحية في القطاع الحكومي، في حين تكلفها الأدوية والكشوفات الطبية نحو 500 دينار تونسي (نحو 180 دولاراً أميركياً) شهرياً، وهو مبلغ يصعب توفيره من قبل أسرتها في ظلّ أزمة كورونا وتراجع مساعدات المنظمات والجمعيات التي تُعنى بشؤون اللاجئين. تضيف وفيقة أنّ "قبل جائحة كورونا، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تتكفل بتوفير أدويتي شهرياً، غير أنّ تراجع المساعدات بعد هذه الأزمة جعلني أوفّر نفقات العلاج من منحة شهرية يحصل عليها اللاجئون لا تتجاوز 200 دينار (نحو 70 دولاراً)". وبغصّة تتابع أنّ "العمر ينقضي وأنا أتحمّل أوجاعي الجسدية والنفسية بعدما فقدت القدرة على لمّ شمل عائلتي الموزّعة في أكثر من قارة".
إخلاص الأسود تمثّل الجيل الثاني من اللاجئين في عائلتها، وهي تحمل بدورها هموم العائلة وتوفير نفقات العلاج، ومطالَبة في الآن ذاته بتوفير تكاليف الإيجار ومستلزمات الحياة اليومية لها ولوالدتها ولابنها. تقول إخلاص التي كانت تعمل مدرّسة في سورية قبل الحرب لـ"العربي الجديد"، إنّ "اللجوء أفقدني كلّ أمل في حياة مهنيّة مستقرة أحصل فيها على حقوقي المادية والمعنوية. فالظروف اضطرتني إلى التنقل بين أكثر من مجال عمل بأجور زهيدة نتيجة استغلال اللاجئين من قبل أرباب العمل". وعلى الرغم من أنّ إخلاص تحصل على مبلغ شهري بقيمة 300 دينار (نحو 110 دولارات) من المجلس التونسي للاجئين، فإنّ هذا المبلغ لا يكفي لسداد الحدّ الأدنى من نفقات أسرتها. هي تدفع أكثر من نصفه كنفقات تعليم لابنها رأفت ولدروسه الخصوصية. وتشير إخلاص إلى أنّ "اللاجئين يتعرّضون إلى انتهاك حقوقهم الخاصة بالعمل ويتقاضون أجوراً ضئيلة جداً مقارنة بالتونسيين الذين يشاركونهم العمل نفسه. ولعلّ أسوأ ما في تجربتي هو أنّ اللجوء حوّلني إلى سجينة الصفة التي نحملها: لاجئون".
أمّا ما يشغل رأفت الذي يمثّل الجيل الثالث من عائلة الأسود اللاجئة، يختلف عن مشاغل والدته إخلاص وجدته وفيقة. فاندماجه في محيطه الجديد كان أسهل بكثير عليه مقارنة بهما، إذ تمكّن من الانتساب إلى مدارس حكومية مذ كان في السادسة من عمره، وهو تلميذ مميّز يحصل على علامات جيّدة. لكنّه يشير إلى أنّه يرى اللجوء بعيون مختلفة، ولا يريد الخضوع إلى واقع فُرض عليه فرضاً. ويؤكد لـ"العربي الجديد": "لم أكن شريكاً في أيّ قرار"، فهو يرى أنّ والدته أساءت الاختيار باللجوء إلى تونس. بالنسبة إليه، فإنّ هذا الأمر "حرمني من مستقبل ومعيشة أفضل بكثير، لو كنت في بلد آخر كما هي حال أبناء خالتي الذين حصلوا على لجوء في ألمانيا". وعلى الرغم من أنّ رأفت يتمسّك بدراسته ويجتهد ليكون طالباً متفوّقاً، فإنّ "المستقبل يبقى غامضاً بالنسبة إليّ، خصوصاً أنّني أرى ما يعانيه التونسيون، وهم أبناء الأرض، من صعوبات للحصول على وظائف". يضيف أنّ "السفر إلى ألمانيا أو إلى أيّ بلد يوفّر لي إقامة، هو السبيل الوحيد لتحسين واقعي حتى لا أكون بدوري ناقلاً لصفة لاجئ لجيل رابع من عائلتي".