عائلات ضحايا مركب طرطوس تتجرّع فصول المأساة

بيروت
ريتا الجمّال (العربي الجديد)
ريتا الجمّال
صحافية لبنانية. مراسلة العربي الجديد في بيروت.
23 سبتمبر 2022
عائلات ضحايا مركب طرطوس تتجرّع فصول المأساة
+ الخط -

"نحن موتى بكلِّ الأحوال". تكررت تلك الجملة، وإن بألفاظ مختلفة، خلال حديث "العربي الجديد"، مع أفراد من عائلات ضحايا قارب المهاجرين الذي غرق مساء أمس الخميس، قرب مدينة طرطوس السورية، بعد أن انطلق من مدينة المنية في شمالي لبنان، مؤكدين أن الواقع لم يعد مكاناً آمناً للعيش، ويدفع نحو سلوك طرق هروب خطرة تظل أفضل من حياة لا كرامة فيها.
غرق المركب الذي كان على متنه أكثر من 150 شخصاً من جنسيات مختلفة، وفارق معظمهم الحياة قبالة جزيرة أرواد، التابعة لمحافظة طرطوس، بينما كان مُتجهاً نحو إيطاليا، وفق إفادات عائلات الناجين والضحايا اللبنانيين.
يقول محمد الحصني، زوج والدة وسام تلاوي، الذي كان على متن المركب مع زوجته وأطفاله الأربعة: "وسام نجا من الغرق، لكنه نقل إلى مستشفى الباسل في طرطوس، بسبب سوء حالته الصحية، في حين توفيت ابنتاه، مي ومايا، ودفنتا صباح الجمعة في عكار (شمال)، أما زوجته وطفلاه الأخران فمفقودون ولا نعرف عنهم شيئاً".
ويوضح الحصني لـ"العربي الجديد"، من منزله في باب التبانة، أن "المركب انطلق الأربعاء، علماً أنهم غادروا ليل الثلاثاء، لكن سوء الطقس أرجأ الرحلة، وحسب معلوماتي، كانت كلفة كل راكب بالغ حوالي 6 آلاف دولار، وكل طفل 3 آلاف دولار، وكانت الوجهة إيطاليا، ومن هناك كانوا سينتقلون إلى ألمانيا".
ويلفت إلى أن "هذه المرة الرابعة التي يحاول فيها وسام الهجرة بحراً، لم تسرِ الأمور كما يجب في المرتين الأولى والثانية، وفي المرة الثالثة جرت مداهمتهم من قبل الأجهزة الأمنية، وعندها، خبّأهم المهرّبون الذين يملكون منازل متنقّلة في أكثر من موقع. وسام كان قد تخطّى فكرة الهجرة، واشترى سيارة ودراجة نارية، لكنه تلقى اتصالاً مساء الثلاثاء، وكان وقتها يتناول العشاء في منزلي، فاصطحب عائلته وغادر، وكانت تلك آخر مرة نراهم فيها".
ويتوقف الحصني عند أسلوب المهربين المخادع، إذ يوهمون الراغبين في الهجرة بأن الأمر سهل وآمن، وأن عدد الركاب لا يتجاوز الستين، ويرسلون إليهم مقاطع فيديو لمراكب وصلت إلى وجهتها لإقناعهم، في حين أن المراكب في الحقيقة غير مجهزة، وحالتها سيئة، وتحمل أكثر من 150 راكباً. 

المأساة واضحة على وجوه أهالي الضحايا (حسين بيضون)
ينتظرون معرفة مصير ذويهم (حسين بيضون)

ويتابع: "الهجرة الشرعية مقفلة في لبنان في ظل أزمة جوازات السفر، ويصعب أخذِ موعد على المنصة الحكومية للحصول على جواز سفر في بلدٍ لم يعد قابلاً للعيش، فأبسط مقومات الحياة غير موجودة، المياه مقطوعة، وكذا الكهرباء، ووسام لم يكن يحتمل البقاء، فهو موظف راتبه لا يتجاوز خمسة ملايين ليرة لبنانية (نحو 140 دولاراً)، ولا قدرة له على تحمل التكاليف المعيشية، وخصوصاً مع بدء المدارس".
تعد "المحرّم – باب الرمل" من أفقر مناطق طرابلس، زرنا عائلة "المانع" المفجوعة، لبس المنزل السواد، وكانت النساء اللاتي يستقبلن التعازي، يصرخن من الصدمة والألم، والرجال يتحدثون بغصّة في محاولة لكتم الدموع، لكن أحداً لم يحاول إخفاء الغضب تجاه الدولة، والمسؤولين، وزعماء المنطقة الأثرياء، وعلى رأسهم ابن المدينة رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، فيما الأهالي محرومون من الماء والكهرباء، ويواجهون الفقر والجوع والموت يومياً.
يقول مانع المانع لـ"العربي الجديد"، إنه خسر ابن شقيقته مصطفى وأولاده الثلاث، وزوجته حالياً بين الحياة والموت، وعمّه في عداد الناجين، لافتاً إلى أنه "لا يوجد رقم محدد لعدد الركاب، لكن يقال حسب الروايات إنهم بين 170 إلى 180 شخصاً".
ويضيف: "المواطن اللبناني، وخصوصاً الشمالي، لم يعد أمامه الكثير من الخيارات، فإما الهجرة، وإلا الجريمة ليصمد في هذا البلد، والمأساة تكبل العائلات العاجزة عن استكمال حياتها في ظل غلاء المعيشة الذي بات يفوق القدرة على التحمل، حتى التعليم بات صعباً، ومتاحاً للأغنياء فقط، فأي جيل نربّي؟ المهربون يسرحون ويمرحون، والمراكب تغادر السواحل يومياً على مرأى الأجهزة الأمنية التي تعرف المهربين بالأسماء، ولا نعرف لماذا لا يلقون القبض عليهم. مصطفى تردّد في الذهاب، وطلب استعادة أمواله، بيد أن المهرب لم يسلمه المال، فاختار الرحيل مرغماً، وحتى الآن لا نعلم كيف غرق القارب، هل بسبب الحمولة الزائدة ورداءة الطقس؟ لا نعرف. المأساة وقعت بكل الأحوال، وخسارتنا كبيرة".

الكثير من الأطفال بين ركاب المركب الغارق (حسين بيضون)
كثير من الأطفال بين ضحايا المركب الغارق (حسين بيضون)

بدوره، يقول شقيقه جهاد المانع لـ"العربي الجديد": "لا نملك مدافن، تخيّلوا، حتى المدافن لندفن أحبائنا لا نملكها"، ويتوجه إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بالقول: "أفضل لك أن تجلس في بيتك، فلو أن هناك شعباً ليحاسبك ما كنت رئيساً للحكومة. لم نسمع صوته، ولم يردّ على اتصالاتنا لنعرف مصير أولادنا، لا نشاهده وغيره من المسؤولين إلا خلال فترة الانتخابات. لم نعد نريد سوى المدافن، ونناشد دار الفتوى تأمينها".
ويشير جهاد إلى أن "مصطفى دفع 3 آلاف دولار عن الشخص. لم يكن ذاهباً للتعزية، كما فعل ميقاتي في بريطانيا، بل كان يريد أبسط الأمور، ماء للاستحمام، وكهرباء غير مقطوعة. كان يحلم بذهاب أولاده إلى المدرسة، ولم يكن لديه القدرة على تحقيق ذلك، فلم يجد طريقاً سوى الهجرة، وليست لدينا دولة حتى نحمّلها المسؤولية".
بدوره، يقول رئيس بلدية القرقف في عكار، يحيى رفاعي، لـ"العربي الجديد"، إن "المركب كان على متنه أكثر من 170 شخصاً، والغالبية كانوا من الفلسطينيين، وهناك أفراد يحملون الجنسيات الليبية، والسورية، والسودانية. كان المفترض أن يتحرك المركب يوم الاثنين، من العريضة، لكن لم يتمكن من ذلك، فانطلق من المنية، وجرى إبلاغ الركاب بأن الوجهة إلى إيطاليا، نظراً لصعوبة التوجه إلى اليونان بسبب الإجراءات المتخذة هناك، وكذلك تركيا، على أن ينتقلوا بعدها إلى ألمانيا، وغالبية الراغبين في الهجرة لديهم طريقة تواصل مع بعضهم لمعرفة أسماء المهربين، والأسعار، واللافت أن المهربين يسلكون طريقاً يُؤمّن لهم من قبل الأجهزة الأمنية للخروج إلى المياه الإقليمية".

ينتظرون معرفة مصير ذويهم (حسين بيضون)
المأساة واضحة على الوجوه (حسين بيضون)

ويتوقف رفاعي عند إحباط الأجهزة الأمنية محاولات هجرة خلال الفترة الأخيرة، قائلاً إنهم "يوقفون مركباً للتعمية، لكن في الحقيقة تغادر عشرات المراكب، ولا يجري إيقافها، ولولا حصول حوادث في الفترة الأخيرة، ما كنا علمنا بها. المهربون يتقاضون من الراكب أكثر من 5 آلاف دولار، ويضعون على المركب الذي تبلغ حمولته 100 شخص أكثر من 200 راكب، ويمكن بحسبة بسيطة معرفة كم يجنون من هذه العمليات، والفساد موجود بكل المؤسسات، وحتى الأجهزة الأمنية يوجد فيها متعاونون معهم".

في السياق، اكتفى مصدر في الجيش اللبناني بالقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "القيادة تقوم بكل ما يمكن لمكافحة عمليات الهجرة السرية، وتوقيف المهربين، وتتعاطى بحزم مع هذا الموضوع، ولا تتستّر على أي مهرب، لكن هناك الكثير من الطرق التي يُلجأ إليها، والتي يصعب كشفها، والأزمة الاقتصادية الخانقة تزيد من وتيرة هذه العمليات".

لم تندمل بعد جراح أهالي شمال لبنان، الذين ما زالوا ينتظرون انتشال جثث الضحايا الذين غرقوا في 23 إبريل/نيسان الماضي، قبالة طرابلس، ويقدر عددهم بما يزيد عن 30 شخصاً، ومعرفة حقيقة ما حصل في تلك الليلة، وأدى إلى غرق الزورق الذي كان على متنه أكثر من 80 شخصاً، وذلك بعد أن عجزت غواصة الإنقاذ الإسبانية التي تبرّع بتمويلها لبنانيون في أستراليا، عن تنفيذ مهمتها، واقتصرت على تصوير الزورق من دون سحبه، ثم غادرت بعد عدم تمكنها من انتشال أي من الضحايا الذين تحللت جثثهم.
وتتفاقم ظاهرة الهجرة السرية في لبنان، وخصوصاً من مناطق الشمال، في ظل تفاقم الأزمة المعيشية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وأعلن الجيش اللبناني، الأربعاء الماضي، أنه تمكّن من إحباط عملية تهريب مهاجرين نتيجة عملية رصد ومتابعة قبالة بلدة العريضة في عكار، وجرى ضبط المركب المستعمل في التهريب على بُعد 6 أميال بحرية عن الشاطئ، وتبين أنه أصيب بعطلٍ في وقتٍ سابقٍ، وكان على متنه 55 شخصاً، من بينهم امرأتان وطفلان، في حين غادره ربانه على متن زورق قبل وصول قوات الجيش، وقامت القوات البحرية بسحب المركب إلى الشاطئ.

ذات صلة

الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
المساهمون