تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن عدد كوارث الطقس والمناخ تضاعف خمس مرات في الأعوام الخمسين الماضية، وتجزم بأن عواقب التغيّرات المناخية أصبحت أكثر وضوحاً، فيما تشير تقارير أخرى إلى أن انبعاثات البشر من غازات الاحتباس الحراري التي تتسبب في مشاكل متداخلة تزداد.
ولا تزال انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ترتفع، في وقت تحقق شركات الطاقة الأحفورية أرباحاً بمبالغ فلكية، وهو ما أكدته على سبيل المثال البيانات الأخيرة الخاصة بالأرباح وزيادة التوزيع التي أصدرتها شركتا "شل" و"توتال" في الأسابيع الأخيرة.
ويورد التقرير الأكثر حداثة لـ"متحدون في العلوم" أن "ضغوط التغيّرات المناخية باتت أكبر وأكبر". وهو يتفق مع عدد من خبراء برنامج الأمم المتحدة للبيئة "يو إن إي بي" والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة (دبليو إم أو) وعدد من مؤسسات البحوث ومراكز الفكر المختلفة، بأن تركيز غازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان سيستمر في الارتفاع في الغلاف الجوي، وأيضاً متوسط درجة الحرارة العالمية. ويعني ذلك، بين أمور أخرى، أن خطر تجاوز درجة الحرارة العالمية مؤقتاً 1.5 درجة، وهي الدرجة الأدنى الموصى بها عالمياً لتجنب أسوأ الكوارث المناخية، سيزداد بنسبة 48 في المائة خلال السنوات الخمس المقبلة.
وستؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى مزيد من الفيضانات وموجات الجفاف والأعاصير وحرائق الغابات في المستقبل، علماً أن تقارير تشير إلى أن التغيّرات المناخية ضاعفت بالفعل عدد الكوارث المرتبطة بالطقس والمناخ خمس مرات.
عملياً، أمام البشرية مهمات كثيرة لوقف تدهور ارتفاع درجات حرارة الأرض، إذ أن الاستمرار في سياسات استخدام الوقود الأحفوري والتقليدي في توليد الطاقة والنقل وانهيار قطاعات زراعية وانتشار جفاف ستؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض 2.8 درجة عام 2100، وهو أمر كارثي عرفت معظم أنحاء الأرض آثاره المدمرة أخيراً.
نماذج الضرر جنوباً
والحقيقة أن انعكاسات تراجع الاهتمام العالمي بمشاريع الدول الأقل حظاً في الجنوب، تبدو سيئة على مستقبل هذه الدول التي تعتمد في الأصل على الاستيراد لتأمين احتياجات الأمن الغذائي لمجتمعاتها الأكثر فقراً، وذلك رغم أن القارتين الأوروبية والأميركية الشمالية شهدتا كوارث كثيرة شملت ارتفاع الحرارة والانتشار السريع للجفاف الذي نشر ظواهر طقسية متطرفة. ويترافق ذلك مع تأثير تصاعد أزمة الطاقة العالمية، واقتراب الركود الخطير، وتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب آثار المواجهة الغربية مع روسيا.
وبما أن مصر تستضيف حالياً قمة المناخ "كوب 27" والتي تستمر حتى 18 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يمكن النظر إلى ما يعنيه التغيّر المناخي مباشرة على واقع هذا البلد الذي يسكنه أكثر من مائة مليون شخص.
وفي أغسطس/آب الماضي، دشن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مشروعاً زراعياً، متحدثاً بكلمات قليلة عن الازدهار والمشاريع الرائعة. وأكد أن المجتمع المصري سيكون أمام حالة تقشف، واستحضر قصة النبي يوسف التي تتحدث عن أن مصر ستواجه سبع سنوات مثمرة ثم سبع سنوات عجاف، لتعزيز الرؤية الخاصة بالتقشف، خصوصاً أن مصر تعتمد بشكل كبير على استيراد القمح لتأمين الخبز.
ولا تعيش مصر وحدها التأثيرات السلبية والعواقب الوخيمة لتلاقي ظاهرة الاحترار وانتشار الجفاف مع التغيرات المناخية، وكذلك التداعيات الحالية للغزو الروسي لأوكرانيا الذي أوجد أزمات كبيرة على صعيدي الطاقة والغذاء، فالواقع يشير إلى أن غالبية المجتمعات تعتمد على استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا.
مياه مصر إلى نفاد
ولعل الحالة المصرية تشكل نموذجاً في التقاء التغيّرات المناخية مع ندرة المياه التي تؤثر على المحاصيل الزراعية، ما يضرب في الصميم مستقبل عشرات ملايين الأشخاص.
ويعتبر تقييم صادر عن الأمم المتحدة أنه من الواضح تراجع موارد المياه العذبة داخل مصر، كما أن أرقام البنك الدولي أكثر تعبيراً ومصداقية عن الواقع الخطير للتحولات السلبية خلال العقود الماضية، إذ أنها تتوقع ألا تتجاوز حصة الفرد من المياه 350 متراً مكعباً عام 2025، مقابل 2526 عام 1947 و700 عام 2013.
وتقدر الأمم المتحدة بأن مصر تواجه عجزاً سنوياً للمياه مقداره 7 مليارات متر مكعب، وتحذّر من أن مياه البلاد ستنفد عام 2025.
ومع اجتماع مشاكل التغيّرات المناخية المتمثلة في انحسار الأمطار وارتفاع الحرارة وانتشار الجفاف مع اكتظاظ المدن، والأزمات الحالية للطاقة والغذاء، يبدو أن مشاكل انتشار البطالة والفقر وتأثيرها على بقية نواحي الحياة، ستزداد في مناطق الجنوب الفقيرة، بينها معظم مناطق الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، ما يحتم توجه الملايين إلى البحث عن الهجرة واللجوء للبقاء على قيد الحياة.
وكانت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أشارت إلى أن "90 في المائة من اللاجئين في العالم هم من مناطق تتأثر بقوة بالتغيّرات المناخية". أما منظمة الهجرة الدولية فأفادت أخيراً بأن الكوارث الطبيعية جعلت نحو 3 ملايين شخص يغادرون مناطقهم في أفريقيا والشرق الأوسط. وتوقعت نائبة مديرتها إيمي بوب أن يحدث مزيد من الهجرة.
إلى ذلك، توقع البنك الدولي هجرة 216 مليون شخص بسبب التغيّرات المناخية بحلول عام 2050، بينهم 19 مليوناً من دول شمال أفريقيا التي تعيش تحت تهديد ارتفاع منسوب مياه البحر.
مأزق العراق
وتتوقع تقارير دولية أن تزيد التغيّرات المناخية في دول الجنوب النزاعات العنيفة على الأراضي وموارد المياه، خصوصاً في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا التي تضم بحسب الأمم المتحدة 11 بين 17 دولة في العالم مصنفة بأنها الأكثر افتقاراً إلى المياه.
ويشكل ارتفاع الحرارة حتى عام 2050 كارثة حقيقية في العراق تحديداً، بسبب انحسار الأمطار وقلة كميات المياه العذبة التي يتوقع أن يخسر نحو 20 في المائة منها بحلول منتصف القرن الحالي. وليست الحال أفضل في الأردن وكذلك فلسطين التي ينهب الاحتلال الإسرائيلي مياهها الجوفية.
رهينة السياسات
في كل الأحوال، تعمّق المسؤولية العالمية عن التغيّرات المناخية وكوارثها الاختلافات الدولية، إذ تؤخذ اتفاقات المناخ رهينة للسياسات، وهو ما أدى مثلاً إلى تعليق الصين المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن ثمانية مجالات رئيسية، بينها المناخ. وبالطبع من دون الصين والولايات المتحدة، وبقية الدول الصناعية المسؤولة عن أكبر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميتان، يصعب أن يغيّر العالم الاتجاه من سلبي إلى إيجابي، أو حتى على الأقل يجمّد وتيرة تدهوره المتسارع.
ويعلّق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس على تقارير التحذير التي سبقت انطلاق أعمال قمة "كوب 27" في مدينة شرم الشيخ المصرية، بالقول إنها "تظهر أن التغيّرات المناخية تدخل منطقة دمار لا يمكن معرفة حدودها، في حين يزيد العالم سنوياً اعتماده على الوقود الأحفوري، حتى لو جعل ذلك الأعراض تسوء بسرعة، علماً أننا نعرف العلاج المتوفر نظرياً، بحسب الخبراء والباحثين الدوليين وفي منظمات الأمم المتحدة".
وتذكر خبيرة التغيّرات المناخية الدنماركية التي تشارك في إعداد التقارير الأممية، آنا أولهوف، أنه "يمكن تحقيق هدف خفض الانبعاثات بنسبة 45 في المائة بحلول عام 2030، لكنه بالتأكيد أمر غير ممكن في ظل استمرار سياسات العودة عن التزامات خفض استخدامات النفط والفحم، وانبعاث غازات الدفيئة. وترى أن تغيير الاتجاه الخاطئ الحالي يتطلب تكثيف المبادرات وتسريعها حتى عام 2030. وهي تشبه تقريباً تخفيضات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي رأيناها خلال السنة الأولى من الإغلاق الذي رافق تفشي فيروس كورونا في العالم".