ينتشر "صندوق العشيرة" أو "صندوق العائلة" داخل المجتمع العراقي، وخصوصاً في مناطق محافظة الأنبار غربي البلاد، التي تشكل ثلث مساحة البلاد، وتحدها كل من السعودية والأردن وسورية. ويقوم الصندوق على فكرة أن يدفع كل رجل من رجال العشيرة دون النساء منها، وفق العرف القبلي، مبلغاً من المال يتراوح ما بين 3 إلى 5 آلاف دينار (دولارين إلى 3.5 دولارات أميركية) شهرياً، يتم تحصيله وجمعه من خلال رئيس الفخذ (الفرع) ليصل إلى مسؤول يتكفل بوضعه في الصندوق.
ويستخدم هذا المال لمساعدة المحتاجين في العراق من أفراد العشيرة في حالات عدة، منها تأمين العلاج أو إجراء عملية جراحية أو في حال وجود مشكلة أو أزمة مالية، بالإضافة إلى المناسبات السعيدة كالزواج. ويرتبط المبلغ المالي بعدد أفراد العشيرة، وعادة ما تمر أشهر عدة من دون أن يحتاج أحد إلى المال، الأمر الذي يؤدي إلى تراكمه ليستفيد من المال أكثر من محتاج داخل العشيرة. ويعتبره كثيرون إحدى ركائز التماسك الاجتماعي ومباردة إنسانية مهمة.
وساهمت هذه المبادرة وما زالت في مساعدة كثيرين في صورة يراها البعض بأنها أحد أوجه التكافل الاجتماعي. وعلى الرغم من منافعها، يعتبر آخرون أنها تعزز مظاهر القبيلة وعاداتها على حساب المدينة والمدنية.
ويروي البعض لـ"العربي الجديد" قصصاً عدة تعكس منافع وجود صندوق العشيرة لدى مجموعة من العائلات التي تنتمي إلى فرع من الفروع العشائرية تجمعهم رابطة قرابة. وساهم هذا الصندوق في إيجاد حلول لمشكلات ومعضلات عدة عاشها فرد أو عائلة تنتمي إلى العشيرة. ويقول عضو مجلس عشائر الأنبار الشيخ محمد الدليمي إن "صندوق العشيرة أخذ ينتشر بشكل أكبر بين القبائل والعائلات، الأمر الذي يؤكد منافعه التي لا يمكن الاستغناء عنها، خصوصاً في الوضع الراهن الذي تمر بها البلاد".
ويؤكد الدليمي في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه "قبل نحو عقدين، قلة هي العائلات التي كانت تساهم في صندوق العشيرة، وخصوصاً التي تعيش في المدن، إذ يرونها عادة بدائية". يضيف: "في الوقت الحالي، يشارك ميسورو الحال والتجار ورجال الأعمال في تشجيع ودعم الصناديق العشائرية، ويدفع البعض أضعاف حصتهم الشهرية بشكل طوعي".
لكن لماذا يحرص سكان الأنبار على الاشتراك في صندوق العشيرة؟ تشتهر هذه المحافظة بطابعها القبلي، ولا شك في أن كثيرين واجهوا أوضاعاً صعبة أو مشكلات، وكان الحل من خلال هذا الصندوق. ويقول فرحان المحسن، وهو مسؤول عن صندوق عشيرته المكونة من نحو 500 رجل، إن ما يدخل الصندوق شهرياً يبلغ حوالي 3 ملايين دينار (ألفي دولار)، مشيراً في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أن "عائدات الصندوق غير مخصصة لتعويض أصحابها بل هي عبارة عن مساعدات لأفراد العشيرة في حال وقوع مشكلات أو حلول مناسبات سعيدة مثل الزواج، وليس بمقدور العريس تأمين تكاليف الزواج. كذلك، فإن الصندوق يُقرِض الأشخاص الذين يحتاجون إلى المال". يضيف: "منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي وحتى مايو/ أيار الجاري، لم يحتج أحد من أفراد العشيرة إلى دعم من الصندوق. وكان آخر ما دفعه الصندوق هو ثلاثة ملايين دينار (2000 دولار) لمساعدة أحد أفراد العشيرة الذي تسبب بحادث سير أصاب عدداً من الأشخاص، وكان عليه تأمين المال لعلاجهم، وقد ساعده الصندوق في تأمين جزء منه".
ويؤكد المحسن أنّ صندوق العشيرة يساهم في تحقيق منافع كثيرة، لافتاً إلى أنّ ذلك كان سبباً مباشراً في التزام الأهالي بسداد ما هو مقرر عليهم دفعه شهرياً. يتابع: "بعض من ميسوري العشيرة يعتبرون أن دعم الصندوق لا يخلو من الثواب والأجر لأنه يساعد المحتاج. وعليه، يقتطعون جزءاً من أرباح أعمالهم لدعمه بأضعاف ما هو مفروض عليهم دفعه. لذلك تزداد المبالغ الواردة إلى الصندوق في بعض الأشهر".
ويرى العديد من رجال الدين أنّ "صندوق العشيرة" هو أحد أهم مشاريع التكافل التي تمنع الأفراد من اللجوء إلى وسائل غير شرعية لكسب المال، إذ تساهم في تأمين حاجات العائلات وتساعدهم في حل مشكلاتهم، الأمر الذي يدفعهم إلى التأكيد على أهمية استمرار دعم هذه الصناديق، وأن يكون المسؤول عنه أميناً ومساعدة المحتاجين من القبيلة. وكثيراً ما يدعو أئمة المساجد الناس إلى التكافل بين أفراد القرية أو القبيلة.
في هذا السياق، يقول الشيخ رياض الرجب، وهو إمام مسجد في إحدى قرى شمالي الأنبار، إنّ "الإسلام يدعو إلى التكافل، وهو ما تعكسه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والتراث الإسلامي. وفي النتيجة، الإنفاق في التكافل يصب في صالح المنفق بحسب عقيدتنا". ويؤكد في حديثه لـ "العربي الجديد" أنّ "صندوق العشيرة صورة عظيمة من صور التكافل الاجتماعي التي نلمس فوائدها. لذلك، أنا وغيري من أئمة المساجد نحرص على نصح الناس بدعمها"، لافتاً إلى أنه مسؤول عن صندوق عشيرته. يضيف: "واجه أهالي الأنبار مصائب كبيرة، وخصوصاً لدى نزوحهم وفقدان أملاكهم ومواردهم، وقد واجهوا خسائر كبيرة بين عامي 2014 و2017، فكان لصندوق العشيرة دور كبير في مساعدة المحتاجين إلى أن عاد الناس إلى أعمالهم من جديد".
إلى ذلك، قضى يونس حسان، وهو من أهالي الكرمة (شرقي محافظة الأنبار) عامين في السجن، عندما كانت القوات الأميركية موجود كونه أحد عناصر المقاومة عام 2006، فقرّر شيخ قبيلته توفير كامل احتياج أسرته من صندوق العشيرة طيلة فترة سجنه. ويقول لـ "العربي الجديد" إنّه يبقى مديناً لأفراد قبيلته وصندوقها لتوفيرهم كافة احتياجات عائلته. لذلك، يحرص على دعم الصندوق. يضيف: "عملت بعد خروجي من السجن في تجارة الماشية وهو العمل الذي أجيده بمهارة، ونجحت كثيراً وما زالت تجارتي مستمرة وأرباحي تزداد ارتفاعاً. ومنذ بداية عملي وحتى الآن أخصص ما نسبته 15 في المائة من الأرباح لصندوق العشيرة".