من حكايات شهداء الطحين... غزيون ينتظرون الغذاء فيعودون قتلى

14 مارس 2024
حالفهم الحظ بالحصول على أكياس من الطحين (داود أبو الكاس/ الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في شمال قطاع غزة، يواجه الأهالي خطر الاستهداف الإسرائيلي المباشر أثناء تجمعهم للحصول على المساعدات الضرورية، مما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى، خاصة في مناطق مثل دوار الكويت وشارع الرشيد.
- الاحتلال الإسرائيلي يعرقل جهود انتشال الشهداء والجرحى ويعكس استراتيجية متعمدة لتجويع الشعب، مع شهادات تكشف عن مدى اليأس والمعاناة التي يعيشها الغزيون، مدفوعين بالجوع والحاجة الماسة للغذاء.
- تم الإعلان عن معبر 96 كطريق جديد لإيصال المساعدات في محاولة للسيطرة على منافذ إدخال المساعدات وتحسين الصورة الدولية للاحتلال، ولكن المأساة الإنسانية تستمر في غزة، مع تأثير نفسي ومادي عميق على السكان المدنيين.

يُدرك أهالي شمال قطاع غزة أنّ الاحتلال الإسرائيلي سيستهدفهم في الأماكن التي يتجمعون فيها من أجل الحصول على المساعدات التي لن يستمروا من دونها. هكذا يعودون في كل مرة شهداء ومصابين.

منذ مساء الأربعاء وحتى ساعات صباح الخميس، أسفرت المجازر الإسرائيلية المتكررة بحق الغزيين الذين ينتظرون المساعدات عن سقوط 6 شهداء وعشرات الجرحى، جراء القصف المباشر والمتعمد من قبل الاحتلال الإسرائيلي على تجمعاتهم أمام دوار الكويت الفاصل مع شارع صلاح الدين الشرقي وشارع عشرة الذي يفصل شرق غزة عن غربها. يتجمع الأهالي حول المفترق بعد انتهاء وقت الإفطار، الذي هو عبارة عن مياه بالنسبة إليهم، على أمل الحصول على مساعدات.
وعرقل الاحتلال انتشال بعض الشهداء بعد استهدافهم، وبقي هؤلاء ساعات وسط مفترق شارع 10 المعروف في المنطقة والفاصل بين غرب شارع البحر وحتى شارع صلاح الدين شرق مدينة غزة. ويفيد شهود عيان وصلوا إلى مجمع الشفاء الطبي بأن المساعدات لم تكن قد وصلت، واستهدفهم الاحتلال في بداية تجمعهم في المنطقة، من بينهم محمد موسى (37 عاماً). وأصيب ثلاثة من أصدقاء موسى وهم من سكان حي الشيخ رضوان، ويتواجدون منذ بداية شهر رمضان بالقرب من مجمع الشفاء الطبي بعدما أرهقهم الجوع وعدم دخول المساعدات إلى مناطقهم، إلا من خلال الإنزال الجوي المذل، لكن سرعان ما استهدفهم الاحتلال في نقطة تواجدهم عند طرف المفترق، وقد نجا موسى بأعجوبة.
ويقول لـ "العربي الجديد": "علمنا أن المساعدات ستدخل كما دخلت خلال اليومين الماضيين عبر الطريق الذي خصصه الاحتلال. لكن الأخير استهدفهم قبل وصولها. أصيب أحد أصدقائي وبترت ساقه، فيما أصيب آخر في رأسه ويده ولا يزال فاقداً للوعي". يضيف: "الكارثة أن الناس بعد هذا القصف يتوجهون إلى مكان توزيع المساعدات ولا يبالون إن ماتوا. الجوع الذي نعيشه يجعلهم يهرعون إلى المكان أملاً في الحصول على كيس طحين. وفوق المذلة التي نواجهها، يحضر المزيد من الناس ونسير حاملين أكياس المساعدات وسط الجثث. نعيش أسوأ إبادة. في إحدى المرات، حصلت على كيس مساعدات، ثم رأيت بنطالي ملطخاً بالدماء". 

ينقلون المساعدات التي حصلوا عليها (فرانس برس)
ينقلون المساعدات التي حصلوا عليها (فرانس برس)

حاول موسى الاقتراب من بعض المصابين الذين كانوا ملقيين على الأرض، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي استمر بإطلاق النار نحوهم. وبذلك، يكون الاحتلال قد قتل 14 غزياً في منطقة دوار الكويت، بحسب آخر الأرقام التي وصلت مجمع الشفاء الطبي، بعدما استهدفهم مساء الثلاثاء الماضي. وهكذا، تحولت بعض شوارع ومفترقات مدينة غزة التي تشكل نقاط وصول المساعدات منذ يناير/ كانون الأول الماضي إلى ساحة دماء في ظل الاستهداف الإسرائيلي المتواصل، علماً أنها تشهد ازدحاماً كبيراً للحصول على المساعدات.
موسى لم يكن الوحيد الذي عاد الى حيث تتواجد أسرته النازحة قرب مجمع الشفاء الطبي. بدوره، عاد الجريح هاني أبو النعمان (26 عاماً) وحيداً ومصاباً بكسر في فقرة في الظهر وفي ساقه اليسرى، في وقت استشهد صديقاه محمد فلفل وإياد أبو عوض جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي تجمعاً لأشخاص كانوا ينتظرون المساعدات في شارع الرشيد بالقرب من دوار النابلسي، حيث سقط أكثر من 100 شهيد ومئات المصابين في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي.  

ينتظر أبو النعمان التنسيق لإخراجه من غزة لتلقي العلاج في مصر، كونه يحتاج إلى عملية جراحية في الظهر والساق خشية أن يصاب بالشلل. يقول لـ "العربي الجديد": "ذهبت وكلي أمل بالحصول على مساعدات، وعُدتُ بخيبة أمل. كنا قد خرجنا قبل يوم من الاستهداف للوقوف عند المفترق وضحكنا رغم الألم. نتحدث عن ذكريات ومواقف مضحكة". يضيف: "كان أصدقائي يرافقونني في كل المواقف الصعبة، وقد نجونا معاً مرات عدة من القصف الإسرائيلي والمجازر، وتمت محاصرتنا في منازلنا من القوات العسكرية في حي النصر وحي الشيخ رضوان، وعدنا لنلملم أحزاننا ونرافق بعضنا البعض في الحصول على المساعدات وشراء الأغراض وغير ذلك. لكن الاحتلال كان يريد قتلنا وقتل كل شيء نتذكره بين أصدقائنا وأحبابنا".

410 شهداء من منتظري المساعدات 

في اليوم الـ 160 للحرب على غزة، ورابع أيام شهر رمضان، استشهد 6 فلسطينيين وأصيب 83 في استهداف منتظري المساعدات جنوبي مدينة غزة فيما واصل جيش الاحتلال غاراته على مناطق متفرقة من القطاع. ويوم الثلاثاء الماضي، قال مكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استهدف مواطنين ينتظرون مساعدات على دوار الكويت شمالي القطاع مما أدى لاستشهاد بعضهم وإصابة العشرات، مضيفاً أن "جيش الاحتلال يصر على استهداف الباحثين عن لقمة العيش ويمعن في سياسة تجويع شعبنا خاصة في شمالي قطاع غزة". وأشار إلى ارتفاع عدد الشهداء الذين قتلهم الاحتلال وهم ينتظرون المساعدات إلى أكثر من 400 شهيد و1300 جريح حتى الآن. ويقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة إن الاحتلال استهدفهم بجميع الأسلحة العسكرية، من خلال قصف بالطائرات والمدافع التي كانت تتركز خلف تجمعات الغزيين في نقاط تواجد المساعدات، وخصوصاً في شارع البحر، بالإضافة إلى القناصة المتواجدين عند بعض نقاط تجمعهم، وطائرات الاستطلاع.

غزة (داود أبو الكاس/ الأناضول)
الفوز بأكياس الطحين ليس سهلاً (داود أبو الكاس/ الأناضول)

ويوضح الثوابتة لـ "العربي الجديد": "نوّهنا في بيانات عدة إلى أن السياسة المتبعة ليست سليمة في توزيع المساعدات، ولا تحافظ على أرواح الغزيين في ظل عدم وجود ضمانات وترتيب لاستلام المساعدات. الاحتلال يُمعن في سياسة التجويع حالياً، وهو عنوان المخطط الإسرائيلي إلى جانب الإبادة والتطهير العرقي، وهو مصر على إبقاء هذه السياسة لقتل الباحثين عن لقمة العيش".

طريق جديد لإيصال المساعدات 

وأعلن الاحتلال الإسرائيلي عن أول طريق بري أدخلت منه شاحنات المساعدات بعد تفتيشها بالكامل يوم الثلاثاء الماضي، وانضم كمعبر جديد إلى قائمة المنافذ البرية التي تمر عبرها المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ويحمل اسم معبر 96. وقد دشنه الاحتلال الإسرائيلي ضمن سياسته في فرض الرقابة على المساعدات والمعونات العاجلة على قطاع غزة. لكن كثيرين اعتبروا أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تحسين صورته أمام المجمتع الدولي، ليكون المتحكم الكامل في جميع منافذ إدخال المساعدات باستثناء معبر رفح الحدودي مع مصر. 

عاد الطفل بدون والده 

واحدة من المآسي التي شهدتها مجازر الاحتلال بحق الغزيين المنتظرين للمساعدات، هي استشهاد محمود سمور (37 عاماً) في مجزرة شارع الرشيد في 29 فبراير/ شباط الماضي، وكان يرافقه نجله بسام البالغ من العمر 11 عاماً. كان يمسك يد والده إلى أن غاب عنه وسط الازدحام، وبقي ينتظر والده عند مفترق الشارع حتى رأى المجزرة بعينيه وقد استشهد والده.  
في الوقت الحالي، يعيش الطفل بسام برفقة عمه عبد الإله سمور (50 عاماً)، ويتواجدان وبقية أفراد العائلة قرب حي النصر وسط مدينة غزة، بعدما دمر الاحتلال منزلهم في منطقة الصفطاوي شمال قطاع غزة، واضطروا للنزوح مرات عدة حتى استقروا في إحدى المدارس في حي النصر، ثم انتقلوا إلى منزل أحد أقاربهم. وكان عمه قد عاد قبل والده سعيداً لحصوله على كيس طحين، قبل أن يُبلّغ بخبر استشهاد شقيقه. يقول عبد الإله سمور لـ "العربي الجديد" إن "الاحتلال الإسرائيلي يتعمد السماح بمرور القوافل ليقوم بتصفيتنا كأهداف مدنية. نتعرض للإبادة الجماعية أمام مرآة المجتمع الدولي. نذهب إلى أماكن تجمع تلك الشاحنات ونعرف الخطر. أساساً، نعيش في خطر وسجن كبيرين ويمكن أن نموت في الأماكن التي لجأنا إليها وفي منازلنا والشارع وحتى أثناء النزوح لأننا مراقبون". يضيف: "الموت الذي نواجهه أثناء توزيع المساعدات يشبه الموت الذي يلاحقنا كل لحظة وفي كل مكان. ما يحزنني أن بسام لا يزال في حالة صدمة، ويرتجف طوال الوقت. وعندما قال أحدهم أمامه عن وصول قافلة مساعدات بدأ بالبكاء. سيكبر ويحمل هذه المآسي معه. نعيش في عام 2024 وسط تقدم كبير في حقوق الإنسان على مستوى العالم، باستثناء الشعب الفلسطيني".

المساهمون