استمع إلى الملخص
- أوضاع مأساوية في مراكز الإيواء: وصلت العائلات إلى مراكز إيواء مكتظة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، وتعرضت النساء للإهانة عند نقاط التفتيش، مع نقص حاد في الغذاء والماء.
- استمرار القصف والدمار الشامل: تعرضت مناطق شمال غزة لقصف مكثف أدى إلى دمار واسع النطاق، وأُجبر النازحون على السير بين الركام والجثث للوصول إلى أماكن آمنة.
نزحت فاطمة أبو صلاح قسراً من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة فجر الخميس 24 أكتوبر/ تشرين الأول، بعد ليلة عصيبة ودامية لم يتوقف فيها إطلاق الرصاص من مسيّرات الاحتلال على المنازل، ولم تتوقف قذائف المدفعية والأحزمة النارية في محيط منزلها الواقع قرب مستشفى كمال عدوان، ليستيقظ الجميع على صوت قادم من الطائرات المسيّرة "كواد كابتر"، يأمرهم بإخلاء المنازل فوراً، مع تعليمات بخط المسير.
كان البيت يضم عشرة من الأبناء وأطفالهم، وسادت بينهم حالة من الذعر خشية تنفيذ الاحتلال تهديده، وارتكاب مجزرة كبيرة كما فعل قبلها بيومين في مشروع بيت لاهيا، في المجزرة التي استشهد فيها 73 فلسطينياً، ما اضطر العائلة إلى المغادرة مثل بقية الجيران.
بحسب مصادر طبية، بلغ عدد الشهداء من جراء الاجتياح العسكري الإسرائيلي المستمر في جباليا وبيت لاهيا ومحافظة شمال غزة 850 شهيداً، والعشرات منهم لم يتم انتشال جثامينهم بعد، إضافة إلى مئات المصابين، مع منع دخول الطعام والمياه الذي يهدد بتفشي المجاعة.
غادرت نساء عائلة أبو صلاح المنزل سيراً على الأقدام رفقة أطفالهن، وتعرضوا خلال الرحلة الطويلة لحرارة الشمس لساعات، بينما كانت تحيط بهم الدبابات ويسمعون أصوات طائرات الاحتلال التي لا تكاد تغادر السماء. وضمت رحلة النزوح القاسية وضعهم في حفرة، وإطلاق الرصاص من حولهم لترهيب النساء والأطفال.
نزحت العائلات بعد نحو 20 يوماً قضتها محاصرة داخل مخيم جباليا
تقول فاطمة أبو صلاح لـ "العربي الجديد": "كانت أصوات القذائف مخيفة، وكنا نعيش ما يشبه يوم القيامة، وبالكاد استطعنا حمل بعض الملابس. أصغر أبنائي عمره عشر سنوات وأكبرهم 27 سنة، وكانت الطائرات المسيّرة تحلق على مستوى ارتفاع البيوت، وظلت توجهنا إلى الطريق المحدد، ومعها بعض الدبابات التي سارت أمامنا وخلفنا أو بجانبنا، حتى وصلنا إلى المستشفى الإندونيسي الواقعة بين تقاطعي مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا، وهناك فصلوا الرجال بمدرسة والنساء بمدرسة".
تضيف: "في الطريق أوقفونا أمام حفرة عميقة صنعوها، وأقدر عمقها بنحو 10 أمتار، ووضع فيها الجنود قرابة 500 طفل وامرأة، وطلبوا من اثنتين من بناتي وأطفالهن النزول إليها، وكنت أخشى أن تكون حفرة إعدام أو مقبرة جماعية، وعندما لم يجد الجنود مكاناً داخل الحفرة لبقية أفراد الفوج الجديد من النازحين قسراً، طلبوا منا الذهاب نحو الحاجز العسكري، والذي يتم فيه تفتيشنا قبل الوصول إلى شارع صلاح الدين".
تقول ابنتها دينا (22 سنة)، والتي وضعها الجنود داخل الحفرة: "كنت أحمل طفلي الرضيع، وعلى ظهري ثلاث حقائب، ويمسك بملابسي طفلاي، وعمرهما أربع سنوات وسبع سنوات، وكانا يحملان حقائب أخرى، وكل النساء اللواتي وضعن في الحفرة كان معهن أطفالهن. كانت مدافع الدبابات ورشاشاتها موجهة نحونا، وبين فترة وأخرى يطلقون النار على محيط الحفرة لإرهابنا، وكنا نخشى أن يقتلونا".
تسرد لـ "العربي الجديد" تفاصيل موقف دموي حدث أمامها، قائلة: "أطلقوا الرصاص على قدم امرأة حاولت النظر للأعلى، ثم أرسلوا مجندة لعلاجها، مدعين أن إصابتها كانت بالخطأ، والهدف تصوير المشهد لإظهار أنهم يعاملوننا بطريقة إنسانية رغم أنهم طوال الوقت كانوا ينكلون بنا وينعتوننا بألفاظ بذيئة. معظم الجنود كانوا يجيدون اللغة العربية، ونسبة أقل تتحدث العبرية، ومن قسوة ما عشته تمنيت الموت، ولو كان بإمكاني البقاء في منزلنا لبقيت رغم المجاعة، وكان أطفالي منهكين من السير، لكنهم كانوا يركضون من شدة الخوف عندما تقترب الدبابة".
تتحدث أمها فاطمة أبو صلاح عن جريمة أخرى ارتكبها جنود الاحتلال بحق النساء عند حاجز التفتيش، عندما أجبروهن على نزع الحجاب وكشف رؤوسهن بدعوى التحقق من الهوية. تضيف: خلال السير، كنت أتوقف لالتقاط الأنفاس من شدة التعب، أو أحاول الجلوس قليلاً للاستراحة، فتوجه الدبابة المدفع نحوي، ويأمرني الجنود بالنهوض ومواصلة السير، ومن شدة التعب رمينا بعض الحقائب، كما كنا نشعر بعطش شديد، وبعض كبار السن لم يستطيعوا مواصلة السير، وبعضهم كانوا على كراسي متحركة، وكانوا يتنقلون ببطء، ثم ساعدتهم أفواج الرجال التي خرجت مساء، ومن بينهم زوجي".
تتابع: "كانوا يمنعوننا من الالتفات إلى الخلف، أو النظر إلى الطائرات المسيرة، وكان حجم الدمار كبيراً، ولم يبق بيت أو شارع إلا وطاوله التدمير، وكأن قنبلة نووية ضربت المنطقة. الدبابات والطائرات اختفت من محيطنا عند مفترق زمو شرق شارع صلاح الدين، ووصلنا بعدها إلى مدينة غزة عقب نحو عشر ساعات من مغادرة المنزل ذقنا فيها أصنافاً من العذاب، ثم وصل زوجي وأولادي الذكور في مساء اليوم نفسه. نعيش بمراكز إيواء مكتظة في مدينة غزة لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة".
لم تكن رحلة عائلة فادي خليل أقل قسوة من رحلة عائلة أبو صلاح، فرغم محاولته التشبث بالبقاء في شمالي قطاع غزة، إلا أن الضغط العسكري الإسرائيلي أجبره على النزوح بعد نحو 20 يوماً قضتها عائلته محاصرة داخل مخيم جباليا مع آلاف العائلات في ظل نقص الأغذية ومياه الشرب. تعرضت شقته للقصف، فانتقل مع أطفاله وزوجته إلى شقة والدته، والتي كانت تضم أيضاً عائلة شقيقه.
يقول خليل لـ "العربي الجديد": "أمضينا آخر عشرة أيام قبل النزوح في قلق دائم، ولم نكن ننام سوى بضع ساعات يومياً من شدة القصف والأحزمة النارية، فضلاً عن نفاد المواد الغذائية، ولولا وجود بقايا مساعدات في بعض المخازن لكانت أوضاعنا أصعب. قصفوا عائلة العرابيد في شارع السكة بالمخيم، فاستشهد نحو 20 فرداً، ثم تكررت المجازر، وبعد انقطاع المياه لتسعة أيام، قامت البلدية بوصل خط المياه، وأثناء محاولتنا تعبئة المياه قصفتنا طائرة مسيرة، فأصيب جارنا، ثم فجروا برميلاً متفجراً في بيت جيراننا من عائلة السيد، فاستشهد بعضهم وظل آخرون تحت الردم، وكنا نسمع استغاثاتهم، ونتواصل مع الدفاع المدني لإخراجهم".
يتابع: "مع تأخر حصول الدفاع المدني على تنسيق من قبل الصليب الأحمر، حضر المسعف أحمد النجار في صبيحة اليوم التالي، وأجرى إسعافات أولية للمصابين، وكانوا أماً وأطفالها، وأثناء محاولتهم الخروج قصفتهم الطائرة على مدخل بيتنا، واستشهدوا جميعاً. رأيت جثث الأطفال ممددة أمام المنزل، وكان المشهد مروعاً، وتوقعت أن يكون منزلي هو الهدف التالي، فاتخذت قرار المغادرة. لم نستطع حمل أغراضنا، وكان همنا هو الإمساك بأيدي أطفالنا، وتوجهنا إلى عيادة (الفاخورة)، فوجدناها ممتلئة، فمكثنا في بيت خال من السكان خلفها".
يكمل خليل: "خلال يومي الأربعاء والخميس الماضيين، كثف الاحتلال قصف محيط مدرسة الفاخورة، وقامت الطائرات بإسقاط براميل متفجرة تحدث صوتاً أشبه بالزلزال. كانت طائرات الاحتلال تستهدف أي شخص يخرج من باب المدرسة، كما أسقطوا طائرة مسيّرة مفخخة عند البوابة، وعندما اقترب نازحون منها تم تفجيرها، وانتهى الهجوم الدموي بإطلاق النار مباشرة تجاه المنازل، مع تكررا القصف من الطائرات الحربية والطائرات المسيرة".
يواصل: "عندما وصلت الدبابات إلى المنطقة، أمهل جيش الاحتلال الناس 20 دقيقة لإخلاء مراكز الإيواء والمنازل، والمغادرة باتجاه مشروع بيت لاهيا، مع إجبارهم على المرور بحاجز تفتيش مجاور للمشفى الإندونيسي، قبل إخراجهم إلى شارع صلاح الدين، ثم إلى مدينة غزة. طلب الجنود من الرجال خلع الملابس باستثناء الملابس الداخلية السفلية، وكنت من بين الذين ظهروا في الصورة التي نشرها جيش الاحتلال لطابور من العراة، تتقدمنا دبابة وتسير خلفنا أخرى، ثم وضعنا بمدرسة الفالوجا، وكنا مقيدي الأيدي، وكانوا يصورون كل شخص عبر هاتف محمول ويسجلون البيانات الشخصية، لكنهم اختاروني من بين سبعة أشخاص لارتداء ملابس كانت تستعمل للوقاية من فيروس كورونا".
يروي خليل مشاهدات مسير استمر لنحو سبع ساعات بين الركام وجثث الشهداء المتحللة، قائلاً: "لم تتبق عمارة سكنية تقف على أعمدتها، فالجرافات دمرت كل شيء. حين وصلنا، أحضر جيش الاحتلال شاحنة، وقال الجنود إنهم سينقلوننا إلى جنوب القطاع، فسادت حالة من القلق لأن عائلاتنا وصلت إلى مدينة غزة، لكن الشاحنة نقلتنا إلى غرب مدينة غزة، ومن هناك سرنا إلى أن وصلنا إلى أماكن بقاء عائلاتنا".