سوق الجمعة... منقذ بسطاء الإسكندرية من غلاء الأسعار

27 يوليو 2023
عشرات المنتجات تباع في سوق الجمعة بالإسكندرية (العربي الجديد)
+ الخط -

تشهد شوارع منطقة "مينا البصل" في محافظة الإسكندرية شمالي مصر، نشاطًا وحركة غير اعتيادية مع شعاع الشمس الأول من كل يوم جمعة، فبائع المعدات اليدوية المستعملة يفرش بضاعته على الرصيف، وبجواره تاجر يعرض ملابس مستعملة على أحد الأسوار، بينما تعرض بائعة عجوز كمية صغيرة من العطور الشعبية رخيصة الثمن، في ظل غلاء كبير في الأسعار ناتج عن ارتفاع التضخم وتدني قيمة الجنيه المصري.
للوهلة الأولى، يجذب نظرك في سوق الجمعة المقام بأحد الأحياء الشعبية في وسط الإسكندرية، الحشود التي تقدر بالآلاف، فضلاً عن طبيعة مرتادي السوق من المتسوقين، وأغلبهم من البسطاء الذين يجدون في السوق متنفساً للشراء، إضافة إلى تحول بعضهم أحيانا إلى باعة يستغلون السوق في بيع مقتنياتهم المستعملة لشراء مستلزمات أخرى، إذ لا فارق كبيراً بين البائع والمشتري، فالجميع يشترون من الجميع.
ويدفع ضعف الأحوال المادية وصعوبات المعيشة التي يعاني منها غالبية المصريين الكثير من الأهالي إلى ارتياد "سوق الجمعة"، الذي يلتئم أسبوعياً منذ الساعات الأولى ليوم الجمعة حتى انتصاف اليوم، ويكتظ دوماً بمئات البائعين الذين يفترشون الأرض لعرض مقتنيات مختلفة، تتباين بين الأثاث والأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية، والملابس والأحذية، وغيرها من المنتجات التي يحتاجها كل بيت، وكل شخص.
وللسوق خصوصية يعرفها جيداً من اعتادوا على زيارته بشكل منتظم، فالجميع يعودون في نهاية اليوم راضين بما كسبوه، أو بما اشتروه، ورغم العرض العشوائي للسلع على الأرصفة والجدران، يعرف قاصدو السوق الشعبي إلى أين يتوجهون للحصول على أغراضهم، وطرق إتمام عملية البيع والشراء التي تعتمد على العرض والطلب، وتشمل جولات من "الفصال" (التفاوض على السعر)، تنتهي بالتراضي بين البائع والمشتري.
ويمتاز السوق أيضاً بعرض بعض المقتنيات والمستلزمات التي يصعب الحصول عليها في  المحال التجارية العادية، إذ اعتاد أهالي المدينة، خاصة كبار السن، على جمع ما لا ينفع في البيت من مستلزمات قديمة لبيعها في سوق الجمعة، وعادة هناك من يحتاجها، وبعضها مقتنيات ومستلزمات لم تعد متوفرة في المحال التجارية. يفترش العم أمين، أحد أرصفة السوق بكمية من الأدوات المنزلية المستعملة، وبوجه بشوش، يقول لـ"العربي الجديد": "أجمع المقتنيات القديمة عديمة الفائدة من البيوت على مدار الأسبوع، ثم أفرشها في السوق لبيعها لمن يرى فيها فائدة، ويقصدني رجال ونساء كثر كل أسبوع لتفقد بضاعتي والشراء مني. أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 40 عاماً، وقد علمتني أن ما ليس له فائدة عندي ربما يكون مهماً أو مفيداً عند غيري، وأنه لا يوجد شيء على وجه الأرض عديم الفائدة، ما يدفعني إلى عدم الاستهانة بقيمة أي شيء، فكل شيء يبحث عنه شخص يُقدر قيمته، أو يسعى للحصول عليه".

الصورة
يشهد السوق زحاماً معتاداً في كل أسبوع (العربي الجديد)
يشهد السوق زحاماً معتاداً في كل أسبوع (العربي الجديد)

وبينما يتحدث، تقف شابة بصحبة طفلها الذي لا يتجاوز عمره 7 سنوات، فتسأل العم أمين عن دراجة مستعملة بحالة جيدة تناسب صغيرها، فيدلها على بائع الدراجات الذي يفرش بضاعته على مقربة منه. تقول الثلاثينية سوسن عليوة، لـ"العربي الجديد"، إن طفلها يطلب دراجة منذ فترة، بينما تصل أسعار الدراجات الجديدة في المحال إلى قرابة 2500 جنيه (80 دولارا أميركيا)، وهو ما يفوق قدراتها المالية، ما جعلها تقرر الحضور إلى سوق الجمعة للبحث عن دراجة مستعملة تُرضي بها صغيرها وتناسب إمكاناتها المادية.
وصلت سوسن إلى بائع الدراجات، وتفقدت بضاعته بعناية للبحث عن العيوب الموجودة في كل دراجة، حتى وجدت مبتغاها، فأمسكت بالدراجة، وطلبت من طفلها الركوب للتأكد من مناسبتها لطوله، عندها اطمأن قلبها، وسألت البائع عن السعر، ثم بدأت جولة معقدة من المفاوضات (الفصال)، والتي انتهت بانتصار كبير، إذ تمكنت من تخفيض السعر من 1900 جنيه إلى 1300 جنيه، لتحمل الدراجة وتتحرك مبتعدة، بينما تغمرها سعادة لا تضاهيها إلا الفرحة العارمة التي تكتنف ولدها الذي تمكن من الحصول على الدراجة.
غادرت الأم وولدها، بينما وقف البائع سعيداً بما حققه من ربحٍ، وقال لـ"العربي الجديد": "الدراجة تستحق ثمناً أكبر، لكن اليوم قارب على الانتهاء، وعليّ أن أتنازل قليلاً حتى لا أعود بها من حيث أتيت، فقد اشتريتها بـ900 جنيه، وأنفقت على تصليحها نحو 200 جنيه، وحصلت من بيعها على ربح قدره 200 جنيه، وهذا أمر مرضٍ لي وللزبون".
على الجهة المقابلة، تقف بائعة الملابس المستعملة، حنان محمود، تنادي بأعلى صوت على بضاعتها، إذ تبيع أي قطعة ملابس بـ30 جنيهاً فقط (نحو دولار واحد)، رغم اختلاف المقاسات والألوان والخامات وغيرها من التفاصيل، وهو ما يزيد إقبال الزبائن عليها، والذين يتدافعون في محاولة للظفر بالقطعة التي تناسب كلاَ منهم.

الصورة
يعرف الجميع وجهتهم رغم العرض العشوائي (العربي الجديد)
يعرف الجميع وجهتهم رغم العرض العشوائي (العربي الجديد)

تقول حنان إن "الكثير من الأسر لديها ملابس قديمة لكنها في حالة جيدة، ولا يدفعهم للتخلص منها إلا صغر المقاس، أو تغير الموضة، وهذه فرصة للزبائن الذين يبحثون عن ملابس رخيصة. كل ما أفعله هو تجميع الملابس بأسعار بسيطة من المنازل؛ وعادة ما أشتريها بالوزن وليس بالقطعة، ثم أبدأ في تنظيفها وكيها قبل أن أعرضها في سوق الجمعة. غالبية رواد السوق من الطبقات البسيطة التي تحرص على الحضور بانتظام  لشراء احتياجاتها بأرخص الأسعار مقارنة بمثيلتها في المحلات، والكثير من أهالي الإسكندرية اعتادوا على جمع ما لا ينفعهم في البيت من أشياء قديمة أو مستهلكة، مثل الملابس والأدوات، وبيعها في سوق الجمعة لمن يحتاجها".
بدوره، يقول المعلم محمد أبو غيط، بائع سيراميك الأرضيات في السوق، إن "بعض الباعة يفرشون بضاعتهم المختلفة في أيام أخرى، لكن الإقبال الحقيقي من قبل البائعين والزبائن يكون في يوم الجمعة. أتعاقد مع مصانع السيراميك على شراء القطع ذات العيوب البسيطة من إنتاجها، وتلك تكون أسعارها زهيدة لأن المنتجين والمحال الكبرى لا تتمكن من بيعها، ثم أبيعها في سوق الجمعة بنصف أسعار البضائع المعروضة في المتاجر تقريباً، فأحقق مكسباً مرضياً، كما يستفيد الزبون من فارق السعر الكبير".

وحول تاريخ نشأة السوق، يقول الحاج عبد العال محمد، وهو أحد القاطنين بالمنطقة، إن السوق ظهر مع استغلال عدد من التجار للساحة الكبيرة خلف بورصة مينا البصل الشهيرة لعرض بضاعتهم من الأثاث والملابس المستعملة، وظل هكذا لعقود طويلة، حتى صار أحد أشهر أسواق المدينة، وبات يضم منتجات متعددة، من بينها الأدوات المنزلية، ومستلزمات البناء، والمقتنيات المختلفة.

يضيف أنه "في السنوات الأخيرة، زادت أهمية سوق الجمعة مع ارتفاع الأسعار وثبات الرواتب، إذ اضطرت غالبية الأسر إلى تخفيض نفقاتها إلى النصف تقريباً لمواجهة غلاء المعيشة، ما جعل للسلع المستعملة أهمية بالغة. تكرر السلطات الحملات الأمنية لإزالة إشغالات الباعة التي تتسبب في الزحام، وتؤدي إلى التكدس المرورى بالشوارع والميادين المحيطة، لكنها لا تفلح في ذلك، فقد تحول سوق الجمعة إلى علامة مميزة للمدينة".

المساهمون