بات مشهد طوابير السيارات أمام محطات الوقود في سورية مألوفاً، لكن ما إن تقترب منها حتى تلمس معاناة السوريين من غياب القانون والفساد المحيط بهم في كلّ ما يمسّ حقوقهم
يقترب النهار من منتصفه فيما يقف أبو جهاد (64 عاماً)، إلى جانب سيارته التي ركنها في أحد طوابير السيارات الممتدة لمئات الأمتار أمام إحدى محطات الوقود في ريف دمشق، منذ صباح اليوم السابق. عيناه تراقبان التحرك البطيء للطابور، وينظر إلى السيارة التي تقف خلف سيارته، قائلاً لسائقها الذي يحاول أن يعرف عن عدد السيارات أمامه: "بقيت 23 سيارة فقط، تمنَّ ألاّ ينفد البنزين قبل أن نملأ خزانات سياراتنا". يتابع: "الأسبوع الماضي على إحدى الكازيات (المحطات) صاح عامل التعبئة: انتهينا اليوم؛ نفد البنزين. كان بيني وبينه أربع أو خمس سيارات فقط، كما كنت واقفاً بسيارتي من اليوم السابق".
تتكرر هذه القصة يومياً مع عشرات الأشخاص، مع ما فيها من إذلال للمواطنين واستهانة بحقوقهم الأساسية. وككلّ أزمات السوريين، يجد الفساد فرصاً للارتزاق من معاناتهم، فمن لا يصبر لساعات أو ربما أيام لملء سيارته بالوقود، لديه خيارات أخرى، كما يقول أبو فراس (46 عاماً) من محافظة السويداء، لـ"العربي الجديد" ويتابع: "كان قد مضى على وقوفي في الطابور أمام محطة الوقود أكثر من 12 ساعة، عندما رأيت أنّ هناك سيارات تأتي من خارج الطابور وتدخل إلى المحطة وتملأ خزاناتها بالوقود، ولا أحد يجرؤ على الاعتراض، لأنّ لجان التوزيع والتموين موجودة وقوى الأمن موجودة، والسلاح مع تجار المحروقات كذلك جاهز للاستخدام لأقل سبب، وقد حدث أكثر من مرة إطلاق نار على محطات الوقود من جراء مشاجرة على الدور (المكان في الطابور) وسقط جرحى". يتابع: "خرجت من الطابور وتوجهت إلى تلك الفتحة، كانت كلفة تجاوز الدور ألفي ليرة سورية (0.95 دولاراً بالسعر الفعلي غير الرسمي) فقط. دخلت وملأت سيارتي بالوقود، لكن لم آخذ حصتي البالغة 30 لتراً أسبوعياً كاملة، فقد اقتطع العامل خمسة لترات، لكنّي لم أدقق بالأمر فأنا لم أصدق أنّني تمكنت من الحصول على البنزين من دون الوقوف في الطابور".
أما أبو هاني الحلبي (68 عاماً)، وهو مقيم في السويداء، فيقول لـ"العربي الجديد": "لست قادراً من الناحية الصحية على الوقوف في طابور البنزين، ولا أتحمل ضربة كف (صفعة على الوجه) أو السكوت عن تلك التجاوزات، لذلك أعطيت بطاقة البنزين الخاصة بسيارتي لأحد الأشخاص ممن يتعاملون مع محطة الوقود ويتاجرون بالبنزين، فيأخذ نصف مخصصاتي ويعطيني النصف الآخر". يشير إلى أنّ "أزمة البنزين وغيرها من الأزمات التي نعاني منها في حياتنا اليومية، مفتعله وتهدف إلى إرهاق المواطن وإذلاله وإشغاله بهمومه المعيشية، لتتهرب السلطة من واجباتها".
من جانبه، يقول لؤي، وهو ناشط، لـ"العربي الجديد" إنّ "الفساد وسوء الإدارة لدى الجهات المسؤولة في النظام عن ملف المحروقات، هي عوامل أساسية في تفاقم الأزمة" موضحاً: "الفساد أصبح شبكة قوية أكبر من مؤسسات الدولة، فلو أنّ مؤسسات الدولة المكلفة تقوم بواجبها، لما استطاعت محطات الوقود سرقة المواطن، ولو أنّ الجهات المسؤولة عن تنظيم الدور تقوم بمهامها من دون أن ترتشي، لما وقع جزء كبير من المشاكل على المحطات بسبب تجاوزات الدور". يضيف: "نحن في حاجة إلى إدارة حازمة لأزمة المحروقات، لكنّ القائمين على السلطة لا يريدون، بل منهم من أصبح مستفيداً من تلك الأزمات، إما مادياً أو ليغطي على تقصيره، وفي النهاية يزداد الخراب بصورة دائمة". يطالب في نهاية حديثه بـ"تخصيص كازيات للسيارات العمومية (سيارات الأجرة) وأخرى للخاصة، وإلغاء تحديد المخصصات بمدة محددة، كثلاثة أيام أو أسبوع، والسماح للشخص بملء سياراته من مخصصاته في أيّ وقت خلال شهر مثلاً، ما يخفف من الازدحام، فهناك من هم ليسوا في حاجة إلى مخصصاتهم، لكنّهم يقفون في الطوابير خوفاً من خسارة حصتهم أو انقطاع البنزين".
وتنتشر في شوارع السويداء بسطات لبيع المحروقات، ليصل سعر لتر البنزين إلى ألفي ليرة سورية (0.95 دولاراً) بينما سعره الرسمي 250 ليرة (0.11 دولار). وبحسب مصادر محلية تواصلت معها "العربي الجديد" طلبت عدم الكشف عن هويتها "أصبحت هناك شبكة اتجار بالمحروقات تعتمد على أشخاص متعاملين مع محطات الوقود، يجلبون منها المحروقات عبر بطاقات البنزين التي إما يشترونها من أصحاب السيارات، أو يأخذونها منهم مقابل تأمين نصف مخصصاتهم من البنزين، كما أنّ هناك أصحاب سيارات يبيعون مخصصاتهم بسبب الربح المرتفع، بالإضافة إلى كميات الوقود، التي تقتطعها المحطات من مخصصات السيارات بشكل غير شرعي، ومن ثم تبيعها لتجار المحروقات". وتلفت إلى أنّ "كمية من البنزين الموجودة في السوق السوداء هي من مخصصات القوات العسكرية النظامية".
يشار إلى أنّ أزمة نقص الوقود بدأت قبل عدة أسابيع في مختلف مناطق النظام، ما تسبب بازدحام أمام محطات الوقود، وارتفاع أجور النقل في المركبات العاملة على البنزين، بينما أعادت تقارير إعلامية سبب أزمة البنزين إلى نقص المستوردات من النفط الإيراني، بسبب العقوبات المفروضة على الطرفين، بالإضافة إلى خروج مصفاة بانياس عن الخدمة وإجراء عملية صيانة لها.