تدق الساعة التاسعة مساءً، فتنتبه منى إلى تأخر الوقت، ويزداد توترها وهي تضع الطعام والفواكه في علب ومغلفات. بينما تنادي بصوت متهدج على بناتها، تستعجلهن لتجهيز أغراض تضم ملابس ومستلزمات صحية لشقيقهن السجين السياسي بحبس المنيا، جنوبي مصر.
تعيش منى وأسرتها في محافظة المنوفية، ويستغرق الطريق من منزلها إلى السجن أكثر من ست ساعات متواصلة، وتزيد تلك الساعات خلال أوقات الزحام أو "الشبورة المائية" التي تعتم الرؤية على الطريق الصحراوي.
تتحرك الأم وبناتها من البيت قبل نحو عشر ساعات على موعد الزيارة، ويصلن قبل أذان الفجر لضمان التسجيل في كشوف الزيارة التي تشمل تسليم ابنها الوحيد بين أربع شقيقات، ما طلبه من طعام ومستلزمات.
ألقي القبض على ابن منى، خلال أحداث سياسية حين كان يمر عابراً في محافظة القاهرة، في صيف 2014. لكن هذا المرور العابر، كلفه ثلاث سنوات في السجن، وثلاث سنوات أخرى قيد المراقبة الشرطية.
وهناك تكاليف أخرى من بينها حسرة والدته على شبابه الضائع، ولوعة شقيقاته على غياب أخيهن الوحيد، ومرض والده، فضلاً عن آلاف الجنيهات المودعة في "كانتين" السجن لتعينه على مواصلة الحياة في الداخل، وآلاف أخرى لإعداد الطعام في كل زيارة، وقبلها مئات الآلاف المدفوعة للمحامي الموكل الدفاع عنه.
لكن هذا الواقع الحزين المؤلم لا يقارن بما ترويه منى، عن طلبات ابنها لبعض رفاقه في السجن ممن يطلق عليهم "فاقدو الأهلية"، والذين لا يستطيعون تلقي أية زيارات من الأهل أو الأحباب، وبالتالي لا تودع نقود بحساباتهم، ولا يصل إليهم طعام ولا شراب من الخارج.
تحكي منى: "عادة ما يطلب ابني مني أن أسامحه على طلباته المتكررة بإعداد كميات وأصناف كبيرة من الطعام لأن معه سجناء لا تصل إليهم زيارات من الخارج، ويتمنون تناول لقمة نظيفة تغنيهم عن طعام السجن السيئ، والذي يؤدي بهم في بعض الأحيان إلى طلب العلاج بعد أن يشتكوا من التقلصات المعوية، أو سوء التغذية".
وتتابع: "يطلب مني أصناف طعام هو لا يأكلها، وأصنافا أخرى يطلب منها كميات أكبر، وبالطبع كمية سجائر كثيرة تكفي الجميع لعدة أيام، إذ يتناوب هو ورفاقه في الزنزانة على التكفل بتفاصيل المعيشة على مدار الشهر. أما هو فعادة ما يطلب لنفسه نوعاً خاصاَ من الكعك بالشوكولاته يباع في الأسواق، ونوعاً من الحلوى بالنعناع. وعصائر".
تتعاطف غالبية أسر السجناء مع "فاقدي الأهلية" في السجون. يجوعون لجوعهم، ويتألمون لآلامهم، ويسهرون الليل يفكرون في أحوالهم مثلما يفكرون في أحوال ذويهم. خليط من المشاعر لا يمكن وصفها. حتى أن فاقدي الأهلية أنفسهم لا يمكنهم وصفها، حسب ما أكد سجين سياسي سابق.
شارك حسام العربي، السجين السياسي السابق، عبر منشور على حسابه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي، تجربة السجن المريرة بصفته "سجينا فاقد الأهلية"، وبدأ حديثه بتعريف هذا الوضع، قائلاً إن "فاقد الأهلية في السجن يعني الشخص الذي لا يتلقى زيارات". وتابع: "رغم أن كل السجناء يأكلون معا من طعام الزيارات الوارد من الأهالي، إلا أن الشعور بالحياء لا يعرفه إلا فاقدو الأهلية، وهذا ما كنت أعاني منه دائماً، لدرجة أن أحد ضباط السجن اشترى لي ذات مرة زجاجة زيت، ومغلف سكر، وآخر من المعكرونة".
وأضاف: "الحياء يعني أن أعيش بمفردي من دون الاعتماد على زملائي في الأكل. أعتمد فقط على طعام السجن، والذي كنا نطلق عليه اسم (الطبخة السوداء)، وهو عبارة عن وجبة من الفاصولياء مع ثلاثة أرغفة من الخبز في الغداء، وقطعة جبن وبيضة واحدة ورغيف من الخبز في الإفطار والعشاء".
كان العربي يشعر بالحرج عندما يضع زميل له في الزنزانة، سجائر أو بونات للشراء من كانتين السجن تحت وسادته، حسبما قال.
السلع المتوافرة في الكانتين هي السلع الأساسية، ويتم منع دخولها في الزيارات ليتم إجبار المعتقلين على شرائها بأسعار مضاعفة، وفي الآونة الأخيرة تم منع دخول بعض الأدوية من الخارج، ليتم التربح عبر بيعها في الكانتين بمبالغ خيالية، حسب تأكيدات أسر معتقلين، وحقوقيين مصريين.
ويعتبر الكانتين مصدر دخل "سبوبة" لبعض الضباط، إذ يأخذ الضابط المسؤول عن الكانتين نسبة من مبيعاته، وتبلغ الزيادة في أسعار سلع الكانتين في بعض السجون 25 في المائة، لكنها تصل في سجون أخرى إلى 4 أضعاف سعر السلعة الأصلي خارج السجن.
ويؤكد العربي أنه إذا انقطعت الزيارات عن السجناء فإنه "يمكن حرفياً أن يموت بعضهم من الجوع، وبالتالي كان لزاماً عليّ كسجين فاقد للأهلية أن أعوّد نفسي على طعام السجن، رغم أنه كان يجعلني زائراً دائماً لعيادة السجن بسبب المغص والتلبك المعوي، فالألم كان أهون من طلب المساعدة، أو التسول من بقية النزلاء".
وفاقد الأهلية ليس فقط من لا يستقبل زيارات أهله لغيابهم عن الحياة، بل إن بعضهم لديه أهل، لكنهم غير قادرين على تكاليف الزيارة، بداية من تكاليف الذهاب إلى مكان السجن، وصولاَ إلى تكاليف إعداد الطعام، أو توفير المال لتركه لذويهم بغرض الشراء من الكانتين، ما يضطرهم إلى عدم زيارة السجين.
ويلجأ بعض فاقدي الأهلية من السجناء إلى القيام بخدمات في مقابل المال أو المساعدات التي يحصلون عليها، فمنهم من يغسل ملابس زملائه، أو ينظف الحمام، أو الزنزانة، أو يطهو الطعام وغيرها من المهام المعيشية.
يقول السجين السابق: "فقدان الأهلية في حد ذاته كارثة تقتل البني آدم معنوياً وجسدياً، فأقصى طموحه يتمثل في الحصول على مستلزمات أو أشياء بسيطة، لكنه لا يملك توفيرها، وحتى لو حصل على ما يريد من أحد زملائه، فإن الأمر قاس معنوياً".