تُعتبر ساحة السرايا، وسط مدينة غزة، إحدى أكبر المناطق الفارغة في قلب المدينة المكتظة بمئات المباني والتجمّعات السكنية، وهي شاهدة على أحداث ما زال كثيرون يتذكّرون تفاصيلها جيداً، حين أقام البريطانيون فيها ما كان يُعرف "بسجن غزة المركزي". وبقي السجن في العهد المصري ثم عهد الاحتلال الإسرائيلي، وحتى بعد تأسيس السلطة الفلسطينية ثم في عهد حركة حماس.
وتأسّس سجن السرايا عام 1921، وكان يتمّ فيه سجن المقاومين الفلسطينيين وتعذيبهم، وبقي قائماً خلال العهد المصري بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، حين وُضع القطاع تحت وصاية الإدارة المصرية، واستُخدم هذا المقرّ كمجمّع للدوائر الحكومية، وخُصّص جزء منه كسجن للقاطنين في قطاع غزة.
ثم تحوّل للسيطرة الإسرائيلية بعد نكسة عام 1967 واحتلال غزة والضفة الغربية والجولان وسيناء، إذ شهد السجن خلال سيطرة الاحتلال عليه، انتهاكات كبيرة حيث كان يخضع المعتقلون فيه للتعذيب ما أدى لاستشهاد بعضهم، عدا أنّ الاحتلال خلال سيطرته على سيناء، كان ينقل مئات المصريين إلى السجن بالإضافة للسجناء الفلسطينيين.
ومع تأسيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو عام 1994، تحوّل السجن إلى مجمّع حكومي واستُخدم جزء منه كذلك كسجن، حيث كان شاهداً على اعتقالات سياسية جرت بحق عناصر محسوبين على حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ومع فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية وعقب سيطرتها بالقوة العسكرية عام 2007 على القطاع، بقي السجن والمكان تحت سيطرتها، واستخدمته هي كذلك لتوقيف عناصر محسوبين على حركة فتح خلال الفترة الأولى للانقسام الداخلي.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2008، تعرّض السجن للتدمير الكلّي عقب بدء "إسرائيل" حربها الأولى على القطاع، في محاولة منها لإسقاط حكم حماس واسترجاع جنديها الأسير حينها، جلعاد شاليط، ما تسبّب في دماره بشكلٍ شبه كامل قبل أن يدمّر بشكلٍ كامل في الحرب الثانية عام 2012، حيث تمّ تجريف المبنى وتحوّل لمجرد أرض فارغة.
وعام 2011، سعت الحكومة التي كان يرأسها، اسماعيل هنية، لتحويل المكان إلى مجمّع استثماري حيوي، إلا أنّ المشروع لم ير النور، فيما أُقيمت على جزء منه أرض للمعارض تتبع إحدى الوزارات الحكومية لتنظيم الفعاليات والمعارض، ومنها معرض للكتاب.
وتبلغ مساحة "أرض السرايا" التي كانت سجناً في السابق، 42,000 متر مكعب وتقع في قلب المدينة، وتحولت حالياً إلى ما يشبه متنزه يجلس فيه الناس، فيما تنتشر مجموعة من باعة المشروبات الساخنة في المكان.
وشهد المكان تنظيم ذكرى انطلاقات أكبر تنظيمين على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، بالإضافة إلى مهرجانات في ذكرى استشهاد شخصيات قيادية فلسطينية، نظراً لمساحته الكبيرة ورغبة كلّ تنظيم في حشد أكبر عدد ممكن من الناس، لإظهار قوته للطرف الآخر.
ولا تزال ذاكرة الأسير المحرّر، سليم الزريعي (72 عاماً)، تحفظ جزءاً من واقع المكان قبل أن يتحوّل إلى متنزه عام. وقضى الزريعي في سجون الاحتلال 24 عاماً، كان من بينها الاعتقال لأكثر من عامين في سجن السرايا خلال الفترة ما بين 1968 و1970، إثر اتهامه بالانتماء لحركة فتح والمقاومة.
ويقول الزريعي لـ "العربي الجديد" إنّ السجن تمّ تصميمه من قبل مهندس بريطاني إبان الانتداب البريطاني لفلسطين، وكان في منطقة أشبه بالغابة، بعيداً عن التجمّعات السكنية بالإضافة إلى سجن الرملة وعسقلان والخليل التي أنشأها البريطانيون.
ولا تزال ذاكرة الأسير الفلسطيني المحرّر، زاخرة بتفاصيل كثيرة في هذا السجن، كان أبرزها استشهاد الأسير، يونس مبارك، فيه تحت التعذيب، بالإضافة إلى قائمة شهداء أخرى تعرّضوا للتعذيب على يد البريطانيين والاحتلال الإسرائيلي.
ويلفت إلى أنّ السجن كان يتميّز باستخدام أساليب التعذيب القاسية والمروّعة بحق الأسرى فيه، حيث يُعتبر محطة أولى للأسرى قبل أن يتم نقل أصحاب الأحكام العالية منهم إلى السجون المنتشرة في الضفة وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، ويبقى فيه الأسرى التي تتراوح مدّة سجنهم ما بين ستة أشهر إلى عام على الأكثر.
ويرى الزريعي أنّه كان من المفترض أن تحافظ السلطة الفلسطينية والجهات الحكومية في غزة على هذا السجن، وأن يتم تحويله إلى متحف ليبقى شاهداً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي والبريطاني بحق الأسرى والمقاومين الفلسطينيين، كما على حقب مهمة في تاريخ النضال الفلسطيني.