رمضان العثماني... حلة عصرية لطقوس تركيا زمن السلطنة

06 ابريل 2023
بعض طقوس تركيا الرمضانية غير موجودة في دول إسلامية وعربية (إسلام ياقوت/ الأناضول)
+ الخط -

تخوض تركيا منذ أن وصل حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي إلى السلطة عام 2002 امتحان عودة أجواء "رمضان العثماني"، الذي تأثر سابقاً بتغيير حكومات علمانية عدة، تولت السلطة بعد تأسيس الجمهورية عام 1923، اتجاهات إدارة البلاد من المشرق والإسلام إلى الغرب والعلمانية. ولعبت حكومات مصطفى عصمت إينونو تحديداً، التي تشكلت مباشرة بعد تأسيس الجمهورية خلال حكم الرئيس مصطفى كمال أتاتورك، الدور الأهم في تبديل عادات وطقوس "الإمبراطورية العثمانية" ووضع تركيا على سكة العلمانية، عبر منع رفع الأذان وتهديم مساجد وتحويلها إلى مخازن وإسطبلات، ثم جلبت فترة رئاسة إينونو نفسه بين عامي 1938 و1950 تغييرات إضافية، قبل أن تشهد المراحل التالية ترك مساحات لاستعادة بعض مظاهر "رمضان العثماني"، التي استفاد منها رؤساء حكومات، بينهم مؤسس الحزب الديمقراطي عدنان مندريس منتصف خمسينيات القرن الماضي، الذي أعاد رفع الأذان باللغة العربية ومنح الحقوق الدينية، وذلك قبل تنفيذ انقلاب عليه وإعدامه في جزر الأميرات عام 1961. كما استفاد رئيس مؤسسة حزب الرفاه نجم الدين أربكان من بعض هذه المساحات أيضاً خلال منتصف التسعينيات من القرن العشرين. لكن الألفية الجديدة التي شهدت تولي حزب "العدالة والتنمية" الحكم أطلقت مظاهر رمضانية أخرى في محاولة إحياء واستعادة العادات العثمانية. ويرى أتراك أن هذه المحاولات نجحت بامتياز.

طقوس مختلطة بين التركية والعثمانية 
وباتت مساجد كانت تعرضت لعمليات هدم سابقة أهدافاً تتجاوز الأطر الدينية، خاصة خلال شهر الصيام، بعد تعزيز التثقيف وتوطين الحالة الاجتماعية واسترجاع التقاليد العثمانية، ما سمح باستعادة أدوارها، لكن التطور الذي شمل كل المستويات، وبينها تعزيز التعددية السياسية واحترام الحريات الوارد في الدستور، أخضع محاولات استعادة مظاهر رمضان العثماني لشروط أو جعلها بقالب عصري وحضاري، أما التطور الذي ألحق إضافات بالعادات العثمانية، وبينها ربط أحبال الزينة المضاءة بين المآذن (المحيا)، أو رؤية نساء، وحتى سافرات، في المساجد، فأوجد طقوساً مختلطة بين التركية والعثمانية لا توجد في الدول الإسلامية والعربية. وفعلياً، باتت إعادة تطبيق وثيقة السلطان، التي كانت تصدرها الدولة العثمانية قبل 15 يوماً من حلول شهر رمضان تمهيداً لاعتماد بنودها ومراعاتها، تصرفاً يخالف الدستور الحالي، وقد يقيم الدنيا على حكام تركيا اليوم، فبين بنودها منع تناول الطعام والشراب في الشوارع، وإظهار "أبوية الدولة" عبر ترك أبواب القصور مفتوحة خلال فترة الإفطار كي يدخل من يشاء لتناول الطعام، وإحياء حفلات ليلية يومية وتوزيع هدايا.

توزيع وجبات إفطار في كهرمان مرعش المنكوبة بالزلزال (رضوان كوركولوتاس/ الأناضول)
توزيع وجبات إفطار في كهرمان مرعش المنكوبة بالزلزال (رضوان كوركولوتاس/ الأناضول)

دفاتر الذمم
ويخبر رجل الدين خليل أوزون، من منطقة درامان في إسطنبول، "العربي الجديد" أن تركيا استعادت معظم طقوس رمضان العثماني، مع إضافات جديدة لم تكن موجودة راعت التغيّرات والتطور، وفي مقدمها العودة إلى التكفل بالفقراء خارج حدودها، وهو ما كانت تفعله "السلطنة" سابقاً. ويقول: "رغم مآسي الزلزال الذي ضرب 11 ولاية جنوبية قبل شهرين، واصلت تركيا خطتها الخاصة بإرسال مساعدات إلى ملايين الفقراء في الدول العربية والإسلامية". يضيف: "تستمر أيضاً عادة زيارة جامع الخرقة النبوية الشريفة التي أحضرها السلطان سليم إلى إسطنبول عام 1516، فزيارة الجامع الذي يقع في حي الفاتح وإلقاء نظرة على بردة الرسول من أشهر مظاهر شهر رمضان المبارك. وعادة لا يسمح بفتح مكان الأمانة الشريفة خلال أيام السنة، لكن بدءاً من النصف الثاني من شهر رمضان، يسمح بزيارته خاصة من قبل النساء. كما أن الاحتفال وتزيين المنازل بالأضواء وعبارات الترحيب بسلطان الشهور، من العادات العثمانية التي لم تزل تنفذ، لكن الأهم العادات التي تتعلق بالفقراء والمحتاجين في ظل الغلاء المعيشي السائد، وبينها إيفاء الذمم، وحرق دفاتر الديون لدى الباعة في المناطق الشعبية والفقيرة، والتي تسجّل فيها أثمان مشتريات باعتبارها ديوناً يجب أن تسدد بعد فترة.
ويختار أتراك أن تكون صدقاتهم عبر تسديد هذه الديون، أو شراء دفاتر الذمة التي يحرقونها أمام المحال، أو يشطبون المبالغ المستحقة فيها شرط عدم ذكر أسمائهم لأصحاب الديون. وتنتشر عادة شراء دفاتر الذمة الخاصة بديون المحال في معظم الولايات التركية، وتترافق أحياناً مع حملات منظمة تشرف عليها البلديات، وهو ما حصل في ولاية غازي عنتاب العام الماضي، والتي تضررت بزلزال العام الحالي، بعدما أطلقت الولاية حملة "الوفاء" لشراء دفاتر الديون من المحال التجارية والبقالين، وسددت جميع الديون التي تتضمنها بالنيابة عن أصحاب الديون.
وتتنامى هذه العادة بالتوازي مع عدد المنكوبين الأتراك هذا العام، إذ دخلت على الخط جمعيات خيرية ومبادرات اجتماعية أو تجار وأصحاب شركات ومنشآت صناعية، بينها حملة "أهل الخير". كما تنظم إدارات ولايات كبيرة ولائم إفطار يدعى إليها تجار ورجال أعمال يساهمون في رسومها ويشاركون في تبرعات مخصصة لمنكوبي الزلزال ومحتاجين، بحسب ما تقول نور بيرقدار التي تشارك في تنظيم هذه النشاطات لـ"العربي الجديد".

رمضان "الحب"
أيضاً تقول سيمرة بوستان لـ"العربي الجديد" إن "طقوس رمضان تبدلت لكنها لم تلغَ، وهي تبدأ بتزيين المنازل والشرفات ووضع فوانيس رمضان قبل أيام قليلة من حلول شهر الصوم، أما العادات التركية الخاصة فتبدأ منذ عودة الرجل من أول صلاة تراويح للمنزل، وتقديمه خطاب ولاء لزوجته التي يجدد حبه لها، ويعتذر عن كل ما بدر منه تجاهها، ثم ترد الزوجة بتقديم سوار أو خاتم من الفضة للزوج للتعبير عن حبها له. وهذا تقليد عثماني قديم انحسر قليلاً لكنه ما زال موجوداً خاصة في ولايات وقرى الأناضول والجنوب". وعن عادة وضع خاتم الفضة ضمن الطعام، تقول بوستان: "ما زالت هذه العادة منتشرة، إذ يوضع خاتم ضمن طبق كفتة داوود باشا، ثم يتم عقد نوايا حول من سيكون الخاتم من نصيبه، ويتحول الخاتم إلى من يعثر عليه حتى إذا كان ضيفاً". وحول "البيدا" ذات الصيت الذائع في رمضان تركيا، تشرح بوستان أنه "خبز رمضاني خاص سميك يصنع بعجينة خاصة، يدخل البيض والسمسم والحبة السوداء ضمن مكوناتها، وهو مادة دائمة على موائد الإفطار والسحور، لكن سعره مرتفع هذا العام ويتراوح بين 10 ليرات و15 ليرة (50 و80 سنتاً) في بعض الأفران".

"دروس السلام والطمأنينة" 
أيضاً، تمتد طقوس الرمضان العثماني المستعادة إلى المساجد التي يناهز عددها 84,700، والتي استأنفت في السنوات الأخيرة مبادرة "خروج الجرة"، التي تشمل إرسال الأطفال إلى المساجد لتعلّم "دروس السلام والطمأنينة"، وتنظيم موائد الرحمن في باحات بعض المساجد والساحات العامة في الولايات الكبرى، والتي كانت توقفت خلال عامي جائحة كورونا وتراجع تنظيمها العام الماضي. ويأتي رمضان هذا العام خلال ذروة الحملة الانتخابية لأربعة مرشحين لانتخابات الرئاسة، ما زاد عدد موائد الرحمن لجعل بطون الصائمين الطريق الأقصر لضمان الحصول على أصواتهم، فمهام تنظيم موائد الرحمن هذا العام لا تنحصر في مسؤولي بلديات ورجال الأعمال، بل تشمل أيضاً أعضاءً في أحزاب.

المساهمون