استمع إلى الملخص
- تفتقر ليبيا إلى خدمات الصحة النفسية الكافية، مما يدفع الأسر للبحث عن العلاج خارج البلاد لتجنب الوصمة الاجتماعية. تحذر الطبيبة ابتسام جمعة من أن إهمال الصحة النفسية قد يزيد البطالة والعنف.
- تؤكد منظمة الصحة العالمية على أهمية خدمات الصحة النفسية بعد الكوارث، مشيرة إلى أن شخصاً من كل خمسة يعاني من اضطرابات نفسية، وتعمل مع السلطات الليبية لتوفير الدعم النفسي.
يعاني ليبيون كثر نفسياً على خلفية الأزمات التي تمر بها ليبيا منذ عقد ونصف العقد، وسط تجاهل رسمي ومجتمعي، فيما يحذر أطباء من عواقب استمرار إهمال الجانب النفسي لليبيين. خلال السنوات الماضية، عاش الليبيون حروباً ونزوحاً وتهجيراً، وفقدوا أحباء، إضافة للبطالة والفقر والتردي الاقتصادي، وتداعيات تغير المناخ، من بينها إعصار دانيال الذي ضرب البلاد في سبتمبر/ أيلول 2023، ولا يزال يلقي بظلاله على طيف كبير من سكان مدينة درنة ومناطق أخرى مجاورة في شرق البلاد.
ولا تزال طبيبة الأمراض النفسية ابتسام جمعة تُحاول مساعدة طفلتين ما دون العاشرة وشاب يتجاوز العشرين من العمر، وهم من ضحايا فيضانات مدينة درنة، على تجاوز ما عاشوه برفقة أسرهم. وتقول إنهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة. المشاهد القاسية تجعل الطفلتين تختبران موجات بكاء أو الرغبة في الانعزال في حجرة داخل بيت الأسرة، أو تواجهان تشنجات أثناء النوم وغير ذلك، وتوضح أنّ "صغر سن الطفلتين قد يساعدهما على تجاوز ما تعيشانه في ظل ما توفره الأسرة من ظروف مساعدة كاللعب والنزهات والسفر خارج البلاد، وتسجيلهما في مدارس خاصة، لكن الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للشاب الذي فقد والدته". وتذكر جمعة في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن عائلة الشاب تعيش مأساة فقدان الوالدة في الفيضانات، علماً أن الوالد كان قد توفي قبل سنوات، وتوضح أيضاً أن عمر الشاب "جعله واعياً للكثير من المشاهد، والأكثر قسوة محاولته إنقاذ والدته التي اختفت وسط المياه. من جهة أخرى، أُبلغ بالعثور على والدته في المقابر الجماعية التي كانت تجمع فيها جثث الضحايا، فذهب ليراها لدى إعادة دفنها، ما فاقم سوء حالته". وتشير جمعة إلى أنه "يرفض الالتحاق بالجامعة مجدداً ويفضل العزلة والصمت".
ويعاني كثيرون ظروفاً نفسية قاسية جراء الحروب. وتؤكد جمعة أن أطفالاً وشباناً فقدوا آباءهم في الحروب ليسوا بأفضل حال. ولا توجد لدى مستشفى علي الرويعي للأمراض النفسية وعلاج الإدمان في بنغازي أي إحصائيات دقيقة حول أعداد الذين يعانون من اضطرابات نفسية، وهو ما ينسحب على مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية في طرابلس. وتؤكد جمعة أنه "قد تتوفر أرقام تنحصر بنزلاء المستشفيين، لكن بعض هؤلاء موجودون منذ أكثر من عشرين عاماً، ومعاناتهم غير مرتبطة بأحداث السنوات الأخيرة بالضرورة"، وتقول: "ما يدعوني إلى التحذير من خطورة تفاقم الاضطرابات النفسية في الظل بعيداً عن المتابعة، هو نوع هذه الأمراض المرتبطة بما يدور في البلاد خلال السنوات الأخيرة، مثل الاكتئاب المرتبط بقصص التهجير والرصاص والحصار والحرب، والشعور بالانفصال الذي ينتج عن النزوح وفقدان المحيط الأسري، واضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق والعنف وغيرها".
وتشير جمعة إلى أن خدمات العلاج النفسي متوفرة في خمس مدن ليبية فقط، هي طرابلس ومصراتة وبنغازي وأجدابيا وسبها، وتتحدث عن تراجع خدمات هذه المستشفيات في السنوات الأخيرة، قائلة: "هذه أرقام تقديرية، إذ تلجأ الأسر إلى علاج أفرادها في مراكز خارج البلاد لحماية أطفالها من الإقصاء المجتمعي بسبب نظرة المجتمع لمن يعاني من اضطرابات نفسية"، وتحذر بشدة من نتائج وتداعيات استمرار إهمال السلطات للاضطرابات النفسية، مشيرة إلى أن "أقل نتائجه هو أن تضاف أعداد من الأطفال إلى الشرائح العاطلة من العمل في المستقبل، وتزايد العنف والجريمة التي قد يلجأ إليها المريض لتعويض ما فيه من نقائص بنظر المجتمع، أو يدفعه مرضه إليها، والقائمة تطول من مخاطر هذه الأمراض في ظل غياب المساعي لمعالجتها".
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنه في أعقاب حالات الطوارئ الكبرى، مثل العاصفة دانيال، يعاني شخص واحد على الأقل من كل خمسة أشخاص من حالات الصحة النفسية، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب التوتر التالي للصدمات. ولهذا السبب، كانت خدمات الصحة النفسية إحدى أهم 3 أولويات حددها فريق تقييم مشترك بين وكالات الأمم المتحدة زار شرق ليبيا في الأيام الأولى من الكارثة.
ويقول ممثل منظمة الصحة العالمية في ليبيا أحمد زويتن إن خدمات الصحة النفسية لا غنى عنها، "فالعظام المكسورة يمكن جبرها حتى تُشفى، ولكن الجراح النفسية، التي غالباً ما تكون آثارها غير ظاهرة، تستغرق وقتًا أطول بكثير للشفاء. ولهذا، نتعاون مع السلطات لضمان حصول المتأثرين بالعاصفة على الدعم الأساسي للصحة النفسية في مرافق الرعاية الصحية الأولية والمراكز المجتمعية، مع مراعاة أن بعض من يعانون من أزمات نفسية حادة سيحتاجون إلى رعاية متخصصة من متخصصي علم النفس والطب النفسي".
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يعتبر النزاع والظروف الأمنية ونقص الخدمات الأساسية من العوامل الرئيسية المساهمة في اضطرابات الصحة النفسية في ليبيا. بالإضافة إلى ذلك، أدى انتشار جائحة كوفيد-19 إلى زيادة مستويات القلق والضعف والضغط النفسي بين جميع شرائح السكان، في ظل صعوبة في الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية الأولية، التي تعتبر مدخلاً لإحالة المرضى إلى خدمات الصحة النفسية المتخصصة.