حي الشجاعية... تجريف واسع "كي لا يبقى شيء كما كان"

21 يوليو 2024
مشاهد صادمة في حي الشجاعية (عمر القطا/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تدمير وتجريف حي الشجاعية**: تعرض حي الشجاعية في غزة لتدمير شامل خلال العدوان الإسرائيلي، حيث دمرت المنازل والبنى التحتية بالكامل، وترك السكان ليجدوا جثامين المفقودين متحللة على الأرض.

- **معاناة السكان وصمودهم**: واجه السكان مشاهد مروعة عند عودتهم، بما في ذلك ألبسة ممزقة ومتحللة تشير إلى اعتقالات وإعدامات. رغم التدمير الكبير، يصر السكان على الصمود والبقاء على أرضهم.

- **تدمير البنية التحتية والمحال التجارية**: شمل التدمير الطرقات والمحال التجارية، مما يعكس نية الاحتلال في منع عودة السكان. استخدام مواد كيميائية ثقيلة في المتفجرات أدى إلى تحلل غير عادي للجثث، مما يزيد من معاناة السكان.

لم يتعرض حي الشجاعية في غزّة لمجرد التدمير خلال العدوان عليها، بل لتجريف كامل. واللافت أن سكاناً أقاموا فيه حين كان مدمراً جزئياً، والآن لا أثر لغالبية المنازل، والجثامين المتحللة كثيرة.

بعد الانسحاب الإسرائيلي من حي الشجاعية، ليل الخميس 11 يوليو/تموز الماضي، عاد سكان الحي الذين غادروه ليجدوا منازلهم مدمرة، وجثامين المفقودين ملقاة على الأرض، وبعضها متحللة بنسبة كبيرة. جرى تجريف كل شيء. ومن شدة الصدمة عاد البعض إلى منطقة غرب غزّة، وأخبروا من ذهبوا للاطمئنان على منازلهم أن يعودوا لأن كل شيء مدمر، ولم يبقَ الشجاعية كما كان.
حوّل جيش الاحتلال الإسرائيلي حي الشجاعية شرقي مدينة غزّة إلى خراب أثناء عملية عسكرية نفذها لنحو أسبوعين، دمّر فيها مربعات سكنية بالكامل، وجرّف شوارع واستهدف البنى التحتية على طول أهم المواقع التي تفصل الحي عن مدينة غزّة وشارع صلاح الدين، بل عن الشوارع الرئيسية التاريخية المرتبطة بالأحياء القديمة، مثل شارع المنصورة وشارع السكة الذي كان شاهداً تاريخياً على خط سكة الحديد الذي يربط بين حيفا ومصر قبل النكبة الفلسطينية.
كان عدد من الشبان الغزيين يترقبون انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي في مناطق تقع على مشارف الحي ومن ناحيته الغربية، حيث اعتبر وجودهم فيها مصدر خطر على حياتهم إذ تعرّض بعضهم لإصابات، لكنهم كانوا يترقبون الانسحاب للاطمئنان على من فقدوا آثارهم من أقارب وأصدقاء أثناء الانسحاب المفاجئ من الحي.
وكانت أصعب المشاهد التي شاهدها سكان الشجاعية العائدون وجود ألبسة ممزقة لأفراد من أسرهم الذين تركوهم في الحي ولم يعرفوا مصيرهم، ما قد يشير إلى اعتقالهم واقتيادهم إلى أماكن غير معروفة. كما وجد آخرون ألبسة متحللة في منتصف الشارع، ما يدل على إعدام الاحتلال أشخاصاً اثناء محاولتهم الفرار.
يخبر محمد حجاج "العربي الجديد" أنه وجد صديقه محمد العرعير البالغ 30 سنة بين الشهداء الذين ألقيت جثثهم على الأرض وتحللت، وعرفه من قميص مقلّم بالأسود والأبيض عندما دخل شارع المنصورة في الحي. ويذكر أن الشهيد كان أحد الشبان الذين ساعدوا كباراً في السن ومعوقين لحظة النزوح المفاجئ من الحي، ثم باغته القصف الإسرائيلي. وقد انتظره ساعات قرب ملعب اتحاد الشجاعية الذي يقع غربي الحي، لكنه اختفى فتابع سيره نازحاً مع أفراد أسرته الى حي الرمال غربي مدينة غزّة.
وشعر حجاج مع أفراد عائلته بصدمة كبيرة من مشاهدة الجماجم والجثامين المتحللة، ويفسّر بأن جثمان صديقه العرعير لم يتحلل بالكامل، ما يدل بحسب قوله على أنه ظل حياً لأيام قليلة، وحاول الهرب والنزوح لكنه لم يجد مفراً حتى استشهد، وأبقي جثمانه على الأرض حتى تحلل جزؤه العلوي حيث أصيب.

ويقول حجاج: "عندما نزحنا فجأة لم يعرف أي منا أين سنذهب. ضمت منازل آيلة للسقوط أقارب وأشخاصاً دمّرت منازلهم، علماً أننا أخلينا المدارس فجأة أيضاً، وتركنا الكثير من أغراضنا في المنازل وهربنا من دون أن نحمل شيئاً، وكنت أنقل مع صديقي الشهيد محمد العرعير نازحين من سيدات يحملن أطفالهن ومسنين وذوي إعاقة، لكن صديقي تأخر لأنه كان يحضر أشياء مهمة من بطاقات تأمين وهويات والده ووالدته".
يضيف: "دخل الحي في مرحلة التدمير أول العام الماضي في ديسمبر/كانون الأول، لكن منازل كثيرة كانت لا تزال صامدة رغم أنها كانت مدمّرة جزئياً، أما الآن فحصل تجريف كبير جداً لمنازلنا التي خسرناها بالكامل، ونحن الآن تائهون، وعدنا إلى منطقة غرب غزة حيث لم نستطع المكوث حتى في مدرسة أقمنا فيها سابقاً، إذ جلست مكاننا عائلة أخرى تشاركنا وضعنا السيئ نفسه، والآن نحن في ساحة المدرسة". 
واجه حي الشجاعية أثناء العدوان الإسرائيلي الحالي مجازر عدة. واقتطع الاحتلال مساحة أكثر من كيلومترين من جزئه الشرقي، وضمها إلى المنطقة العازلة التي منع وصول الغزيين إليها، كما دمّر أحياء ومناطق ومربعات سكينة. وقدّر المكتب الإعلامي الحكومي بأن حي الشجاعية من بين الأكثر تضرراً من العدوان، وأن 70% من مبانيه دُمّرت.
وعموماً لم يخرج حي الشجاعية من نكسة تدمير العدوان الإسرائيلي أجزاءً كبيرة عام 2014، وانتظار سنوات لإعادة إعمار منازله قبل أن يدمرها الاحتلال بالكامل أثناء العدوان الحالي. وهذا ما حصل مع أحمد حلس (49 سنة) الذي دمّر منزله بالكامل في عدوان عام 2014 ثم أعاد إعماره بعد 6 سنوات عام 2020 خلال فترة تفشي وباء كورونا.

شهد حي الشجاعية مجازر عدة (عمر القطا/ فرانس برس)
شهد حي الشجاعية مجازر عدة (عمر القطا/ فرانس برس)

ولم تدم فرحة الانتهاء من إعادة إعمار المنزل طويلاً، إذ لحقت به أضرار جزئية خلال العدوان الاسرائيلي في مايو/أيار 2021، أصلحها على نفقته الخاصة لأنه لا يثق بإنجاز مشاريع إعادة الإعمار سريعاً، لكن منزله دمّر بالكامل أثناء العملية العسكرية الأخيرة، حتى أنه وجد النجمة السداسية مرسومة على جدار مدمّر من أجل استفزازه.
ويقول حلس لـ"العربي الجديد": "جُرّف كل الحي ولم يبقَ إلا التراب، لا منزل ولا ملامح من الحي الذي كنت أعيش فيه. هدموا قلبي وذكرياتي. أصيب المنزل بأضرار بالغة جداً سابقاً، لكنني كنت أقول إنه "حتى لو بقي حجر واحد وسقف سأبقى في المنزل وأتمسك بأي أمل في الأرض وترابها، لكن العدو الإسرائيلي دمّر كل شيء، حتى السقف والتراب".
يضيف: "سكان غزة في عذاب دائم لأنهم موجودون على أرضهم، ويتحملون الكثير من الظروف السيئة للحصار الإسرائيلي والعدوان المتكرر وإغلاق معابر. لقد تدمر منزلي مرات، وهذه حال أفراد في عائلتي. لدينا مئات الشهداء والمفقودين والجرحى لكنني لن أستسلم للحزن رغم أنني لم أستفق بعد من صدمة المجزرة الأولى في هذه الحرب، ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما خسرت شقيقي وأعز أصدقائي".
ودمر الاحتلال الإسرائيلي طرقات في السوق المؤدية إلى حي الشجاعية وعدداً كبيراً من المحلات التجارية إلى جانب المنازل، في واقعة أكدت عدم رغبته السماح بعودة السكان إلى منازلهم. وفيما تستمر التهديدات المتواصلة لسكان المنطقة من أجل إخلاء مدينة غزة، لا يزال عدد كبير من الموجودين يصرون على الصمود.
وعندما عاد سلمي لتفقد منزله ومحله التجاري وجد كل شيء مدمراً، ثم عثر على جثامين لأبناء جيرانه المفقودين، أحدهم كانت جثته متحللة بالكامل، ولا تظهر أي ملامح عليها، ثم افترض أن الجثامين تعود الى أشقاء ثلاثة مفقودين من عائلة حرز الله لأنهم كانوا سوياً عندما فقدوا. وأغمي على سلمي من صدمة معرفة أنه خسر منزله ومحله التجاري بعدما استنشق الكثير من روائح الجثامين المتحللة.

يقول سلمي لـ"العربي الجديد": "عشنا ونشانا في حي الشجاعية، وكنا نعتز بصموده طوال سنوات الحصار وفي الحروب الإسرائيلية المتكررة التي أرادت تدميره. امتلكت مبنى من ثلاثة طوابق، وبنيت منزلاً لابني الذي يدرس في الجامعة كي أحمي مستقبله، وكنت أعمل في محلات تجارية. كل شيء دمّر بالكامل".
يضيف "لا ملامح لحي الشجاعية. قصف الاحتلال شوارع عدّة واستهدف مجاري المياه وأماكن تجميعها وشبكات أنابيبها أسفل الأرض. تعمّد تدمير كل مقومات الحياة كي لا يعود أحد إلى الحي. أصبحت الآن فقيراً جداً ودمرت نفسيتي وعزيمتي، لا أملك شيئاً الآن باستثناء قصص فلسطين التي ربانا أجدادنا عليها منذ الطفولة".
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد"، قال الطبيب الشرعي محمود الطيب، بعدما عاين عدداً من جثامين الشهداء: "ظهرت آثار غريبة جداً وانتفاخ غير عادي وتآكل في الأطراف على جثامين الشهداء خلال العدوان الحالي، وكانت الحروق وألوانها غريبة، ولا تعطي دلالة على أن التحلل نتيجة مواد معدنية ثقيلة داخل المتفجرات فحسب، بل لأنها تحتوي على مواد كيميائية ثقيلة. ولا توجد بطبيعة الحال معامل دقيقة لفحص هذه المواد". 
يضيف: "عملياً، هناك مواد كيميائية عدة للتخلص من الجثث، أبرز هذه المواد هي حمض الكبريت الذي أخضع لدراسات طبية سابقاً. وبناء على تجارب سابقة في دول خارجية، استخدم لإذابة الجثامين وتحليلها، ويمكن لهذا المركب الكيميائي إذابة جزء كبير من الأنسجة الجسدية، حتى الصلبة منها، وإذابة الأسنان خلال ساعات، وهناك جثامين في غزة لا يعرف أي آثار لها بشكل غير منطقي".

المساهمون