لا يختلف مصير حيّ الرمال في مدينة غزة عن سواه من أحياء قطاع غزة ومناطقه المختلفة، في ظلّ العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع المحاصر. فأنحاء كثيرة منه تعرّضت لقصف مركّز من مقاتلات الاحتلال التي لم توفّر لا الحجر ولا البشر.
كان حيّ الرمال، وسط مدينة غزة، أو كمّا يطلق عليه كثيرون حيّ الطشّات، أيّ الحيّ الذي يتفسّح فيه الناس ويروّحون عن أنفسهم في داخله، مقصد كثيرين. فعندما يقرّر شبّان التنزّه في المدينة، لا يكون أمامهم سوى مكانَين فقط، إمّا حيّ الرمال وإمّا شاطئ البحر. لكنّ الغزيّين لن يتمكّنوا بعد اليوم من ذلك لأنّ الاحتلال الإسرائيلي حوّل هذا الحيّ الجميل إلى حيّ أشباح. ويضمّ حيّ الرمال متنزّه الجندي المجهول الذي يستقبل كثيرين من سكان قطاع غزة يقصدونه ليستريحوا فيه ويتناولوا مشروبات وساندويشات رخيصة الثمن يشترونها من بائعي العربات. وثمّة شبان عاطلون من العمل يُقبلون عليه بشكل يومي، إذ يستهويهم مثلما تستهويهم الحركة فيه والأشجار وحتى الازدحام لأنّه يبعث الحياة في غزة.
ويُعدّ حيّ الرمال من أكبر أحياء مدينة غزة، ويضمّ عدداً من الشوارع المهمّة والرئيسية في المدينة ويضمّ مئات المحلات التجارية والشركات والمكاتب والمؤسسات الرسمية وآلاف الوحدات السكنية والأبراج والمباني، وكثيرون يعدّونه قلب مدينة غزة النابض بالحياة. وإذا كان أحدهم يرغب بمعرفة ظروف البلد وحركة الناس يقصده ويراقب المارين للتعرّف إلى حال الناس.
على مدى أيام العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، استُهدفت أهداف عدّة في حيّ الرمال، أبرزها الأبراج السكنية، منها برج الجوهرة وبرج الجندي المجهول، فيما دُمّر بالكامل برج الجلاء وبرج الشروق، الذي يعدّه كثيرون منارة حيّ الرمال. كذلك طاول القصف شققاً سكنية كثيرة فيه، ودُمّر مبنى أبو عوف والكولك، وسط شارع الوحدة، في الحيّ نفسه، بالإضافة إلى مبنى الترك ومراكز للشرطة معروفة في مبنى الجوازات ومبنى كحيل.
ويؤمّن آلاف الأشخاص رزقهم في هذا الحيّ، وثمّة أحداث يومية كثيرة تدور فيه. وفي هذا الإطار، يقول بهاء اللولو (30 عاماً)، وهو عاطل من العمل، علماً أنّه خريج كلية تكنولوجيا المعلومات من الجامعة الإسلامية في غزة منذ سبعة أعوام، إنّ حيّ الرمال هو متنفّس له ولأصدقائه، ففيه مقاهٍ يستريحون فيها فيما يستريحون في بعض المرات في متنزّه الجندي المجهول. وفي بعض الأحيان يتجوّلون فيه سيراً على الأقدام، إذ يعدّونه الحيّ النابض في غزة. ويخبر اللولو "العربي الجديد" بأنّه يلتقي صدفة بكثير من زملاء الدراسة، فيسترجع معهم ذكريات جميلة، خصوصاً في "كوفي شوب رنوش"، أبرز المقاهي في برج الشروق. هو كان يدرس وإيّاهم فيه عندما كانوا طلاباً وكانت الكهرباء تنقطع عن منازلهم. أمّا اليوم فهو تحت الركام كما معالم كثيرة في الحيّ. ويؤكد اللولو أنّه "في كل شارع وزاوية لديّ ذكريات، وهو أمر مشترك بين أهالي غزة جميعاً"، مشيراً إلى أنّه "يُعَدّ أرقى الأحياء، لكنّه غريب بعض الشيء. ففيه مثلاً مطاعم مرتفعة الأسعار، في حين يمكنك الجلوس بالقرب منها أمام المتنزّه أو في الشارع لتناول مشروب رخيص الثمن". يضيف "لكن ما أشاهده اليوم يجعلني أشعر بضيق. وبعد انتهاء العدوان، لا أعلم أيّ مكان أقصد لأمشي فيه وأنسى همومي، لا سيّما بعد الحرب علينا". وبالنسبة إلى اللولو، فإنّ "الحيّ يجمع كثيرين من العاطلين من العمل ومن العاملين بنظام المياومة ومن الباحثين عن العمل والخرّيجين منهم. وجميعهم يشكون همومهم في هذا الحيّ الجميل بأشجاره وبتفاصيل مبانيه ومتاجره. الجميع يشعر بالراحة فيه".
من جهتها، ترى سناء العشي (40 عاما)، وهي من سكان حيّ الرمال، أنّ "الحيّ بالنسبة إلى أهل غزة أكبر من حيّ فيها، إذ هو ينبض تجارياً واقتصادياً وسياحياً فيما يسكنه عشرات آلاف السكان. هو منارة مدينة غزة، وشاهد على كلّ مواسم الأفراح والأتراح فيها. وسيارات الزفاف بمعظمها تمرّ في هذا الحيّ لأنّه يبعث الفرح والأمل بين المارة". وتقول العشي لـ"العربي الجديد": "عندما تحسّ باختناق ما، تمشي في الرمال لتشعر بتحسّن نفسيتك ومزاجك، فتشتري مثلاً البوظة (المثلّجات) من عند كاظم أو الجرجاوي، أو ساندويشات الفلافل من عند السوسي أو أبو السعيد، وتجلس في متنزّه الجندي لتتناولها. قد تشعر حينها بأنّك ملكت الكون. هكذا يروّح الغزي عن نفسه في هذا الشارع. والحياة الحقيقية بالنسبة للغزيين تتمثل في هذا الحيّ. حتى عند تصوير أجواء قطاع غزة، يلجأ الصحافيون إلى هذا الحيّ". وتستذكر العشي "مئات الأفراح والمناسبات السعيدة التي كانت تُجرى في الحيّ، ومثلاً كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يقيم احتفالات في متنزّه الجندي المجهول. لكنّ هذه المشاهد تبدّلت بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000، فالاحتلال الإسرائيلي دمّر ما تبقى من الملامح الجميلة في الحيّ".
آمنة الخندار (38 عاماً)، هي صديقة سناء العشي، وتقول إنّها كانت تتجوّل فيه قبل يوم من بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، وشعرت بالسعادة لتخفيف الإجراءات المفروضة على خلفية تفشي فيروس كورونا الجديد، بالإضافة إلى العيد. وتخبر "العربي الجديد": "اشتريت ملابس العيد لطفلتَيّ ليزا (تسعة أعوام)، ورينا (سبعة أعوام)، لكنّني كنت أنوي شراء أحذية لهما في العاشر من مايو/ أيار الجاري. لم أتمكّن من ذلك بسبب القصف الإسرائيلي، فأجّلته لليوم التالي. لكنّ الأمر ازداد سوءاً ولم أحتفل بالعيد، كذلك الأمر بالنسبة إلى الغزيين جميعاً". وتشير الخندار إلى أنّ "ثمّة نساءً يتجوّلنَ في أسواق حيّ الرمال في فترة الأعياد والاستمتاع بجوّ العيد فقط، إذ إنّ الشراء ليس ممكناً بالنسبة إلى الجميع نتيجة الظروف المعيشية الصعبة"، مؤكدة أنّ "ملامح الحيّ تبعث الفرحة فيهنّ وفي أطفالهنّ. أمّا اليوم فقد شاهدت الحيّ وهو يبعث الرعب والخوف والتشاؤم بعدما اختفت ملامح الجمال منه".
في السياق نفسه، يقول المهندس المعماري المتقاعد ديب الجمل (63 عاماً)، وهو يسكن في حيّ الرمال بالقرب من شارع الشهداء: "أشعر بضيق لما حلّ بالحي، فهذا تدمير لأهمّ معالم وشوارع قطاع غزة". ودعا مهندسي فلسطين والعالم العربي إلى البدء في إعداد مخططات لإعادة الإعمار بهدف إحيائه من جديد بالتعاون مع بلدية غزة، "فتُعاد الروح إلى جسد مدينة غزة". يضيف الجمل، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أنّه "لا يوجد إنسان في مدينة غزة أو حتى زائر لها لا يحتفظ بذكريات من حيّ الرمال. فهو كان متنفسنا الرئيسي على مدى عقود. وقد سُمّي لكثرة الرمال فيه قبل 100 عام، وسرعان ما ازدهر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فأُنشئت مبانٍ ومؤسسات مهمة كثيرة فيه".