حكاية هالة وميمنة وحبيبة اللواتي قتلهن الاحتلال

08 نوفمبر 2023
استشهدت هالة مع ابنتيها تحت القصف (العربي الجديد)
+ الخط -

قد يكون الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول اليوم الأكثر إيلاماً في حياة هديل صالح. فبعد دقائق من إنهاء مكالمتها مع أختها الكبرى هالة المقيمة في قطاع غزة، وقعت مجزرة أدّت إلى استشهاد هالة مع ابنتيها ميمنة وحبيبة، بينما لا يزال زوجها في عداد المفقودين مع عدد من أفراد أسرته.
تقول الشابة الفلسطينية المقيمة في بريطانيا لـ"العربي الجديد": "كنت قلقة منذ بداية العدوان على غزة لأنني عشت عدّة حروب سابقة على القطاع، وفي كل مرّة أتصل بأهلي كنت أحس بوجعهم وقلقهم. في اتصالي الأخير مع هالة، وقبل أن ينقطع الصوت سألتها عن حالها، رغم معرفتي التامة بالأوضاع القاسية التي تعيشها، ولم يكن السؤال للاستفهام، بل كان تعبيراً عن قلقي. تحدثنا عن أمور يومية اعتيادية في محاولة للحديث عن موضوعات بعيدة عن الحرب".
تضيف: "كان صوت هالة هادئاً للغاية. كانت خائفة، لكنها متقبلة لمصيرها، وراحت تردد: نحن بخير، وكل ما يأتي من ربنا خير. ديري بالك على حالك وعلى ولادك. أحسست أن هذه الكلمات الأخيرة كانت وداعاً، لكنني كنت أرفض إدراك أنه سيكون الوداع الأخير. لم نودع بعضنا بعضاً كالعادة، فالمكالمة انقطعت، والصوت اختفى، وبعد دقائق بدأ القصف الإسرائيلي على المنطقة".
تقول هديل بصوت يقطعه بكاؤها: "كانت أختي امرأة استثنائية لا أستطيع اختصار شخصيتها في بضع كلمات. كانت تعمل في شركة تأمين، وكانت ذلك الشخص الذي يشعرك بالبهجة بابتسامتها الدائمة وتفاؤلها، وكانت تملك طموحات كبيرة وأحلاماً حدودها السماء، ما جعلها مميزة بين كل من عرفوها. كانت تفتح أبواباً جديدة، وتفكر خارج الصندوق، ولطالما حلمت أن تصبح صحافية، كما كانت عاشقة للقراءة، وكانت تكتب الشعر، وبدأت تأليف قصص للأطفال، ما دفعها لتأسيس مجموعة خاصة على تطبيق (واتساب) بهدف تبادل الكتب والأفكار".
في السنوات الأخيرة، كانت هالة تسجل بصوتها مقتطفات من الكتب التي تحبها، وتنشرها عبر حسابها في إنستغرام، كما تطوّعت في نادي "تشامبيون" في غزة، وهو مركز ثقافي ترفيهي للعائلات والأطفال، حيث كانت تقرأ قصصاً للأطفال أسبوعياً، وتنظم أنشطة ترفيهية متنوعة لهم، وكانت تحلم بإنشاء نادٍ للكتب يتولى تبادل خبرات القراءة على أرض الواقع في غزة.

الصورة
كانت للشهيدات أحلامهن (العربي الجديد)
كانت لهما أحلامهما الكبيرة (العربي الجديد)

كانت هالة أمّا لأربعة أطفال يحملون بذور أحلامها، وكانت هي مصدر إلهامهم، ولم تعترض على رغباتهم، أو تفرض عليهم دراسة تخصصات معينة، بل كانت دائماً تدعمهم، وتترك لهم الفرصة لاكتشاف شغفهم واهتماماتهم الشخصية. بيد أنّ الحرب قضت عليها وعلى ابنتيها.
كانت ابنتها الكبرى، الشهيدة ميمنة، تعشق الفن، واختارت دراسته جامعياً، وكانت تتوق للسفر إلى أميركا أو بريطانيا بمجرد انتهائها من الدراسة الجامعية، أملاً في أن تتاح لها الفرصة لمواصلة رحلتها في عالم الفن والإبداع، وتحقيق أحلامها الكبيرة. أمّا ابنتها الشهيدة حبيبة، فكانت مليئة بالحيوية والبهجة، وكان وجودها يضفي على أي مكان لمسة من الفرح، كما كانت تتمتع بشخصية قوية، وتحلم بأن تكون محامية في المستقبل.
تقول هديل: "في زيارتي الأخيرة لهم، في يناير/ كانون الثاني 2022، كانت حبيبة دائماً إلى جانبي، تغمرني وتقبلني، وأهدتني إكسسوارات يدوية صنعتها بنفسها. تلك اللحظات على بساطتها ستبقى ذكريات جميلة كان يمكنها أن تدخل البهجة إلى روحي لو أنني لم أفقد أختي وابنتيها".

وتروي هديل ما عرفته عن استشهاد أختها وابنتيها: "لن أسامح أبداً من تسببوا في فقداني لهن، لقد قتلوهن وهن خائفات، وكن يخبرنني بذلك. وجدوا هالة مستلقية على السرير تحتضن ابنتها ميمنة، أمّا حبيبة فوجدوها عند الشرفة جالسة على الأرجوحة. كأنها كانت تحاول الاستمتاع بلحظات من الهدوء وسط الفوضى والدمار. أحمد الله على نجاة ابن شقيقتي البالغ من العمر 17 سنة، والذي كان يقف بالقرب من أخته الشهيدة، والذي ألقت به قوة القصف بعيداً، فتعرّض لجرح في رأسه، لكنه عاش بأعجوبة. أمّا ابنها الأصغر الذي يبلغ من العمر تسع سنوات، فكان في غرفة أخرى مع جده وجدته وأفراد آخرين من العائلة، وفي لحظة القصف احتضنه ابن عمه البالغ من العمر 22 سنة، ليغمرهما الركام. بيد أنّهما حفرا طريقهما إلى الخارج".
تختم هديل: "سأظل أحكي عما جرى لهالة وابنتيها، لأنها لم تكن لتصمت، ولا يهمني من حولي، وما هي جنسياتهم. سأنشر قصتها ما استطعت. كانت هالة تتمنى العيش في ظروف أفضل، وكانت تستحق تحقيق أحلامها وأحلام أطفالها. كانت تستحق العيش بهدوء وأمان. باستطاعتي أن أبكي في منزلي بصمت، لكني لن أفعل ذلك، وسأواصل الحديث عن المجزرة".

المساهمون