يحمل جيل نكبة 1948 حزناً ثقيلاً أضيفت إليه مأساة العدوان الحالي الذي جعلهم يعيشون الذل والمرض والجوع والخوف رغم أمراضهم المزمنة وتقدمهم في العمر. اليوم، يتمنون الموت في الأماكن التي هُجروا منها.
خرج المسن حمد الحمامي (87 عاماً) من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة سيراً على الأقدام للوصول إلى مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ثم حاصرته وآخرين طائرات الاحتلال. نزح مجدداً سيراً على الأقدام حتى وصل إلى شارع صلاح الدين شرق مدينة غزة. هناك أقلّته عربة يجرها حمار إلى وسط قطاع غزة، الذي نزح منه أيضاً وصولاً إلى جنوب القطاع في مدينة رفح. يخرج المسن الحمامي من الخيمة التي نصبت في منطقة المخيمات كل صباح ليجلس تحت أشعة الشمس، وهي المرة الثانية في حياته التي يقيم فيها داخل خيمة. سابقاً، أقام في خيمة نصبت في منطقة السرايا وسط شارع عمر المختار. في ذلك الوقت، نصبت منظمة الكويكرز الخيام للاجئين الفلسطينيين في المنطقة التي غرقت جراء كثافة الأمطار.
تكرر المشهد نفسه وبصورة أصعب، يقول الحمامي. أغرقت الأمطار الخيام، لكن لم تكن المساحات متاحة أمامهم للهرب بأي اتجاه، إذ تغيّرت جغرافيا قطاع غزة في ظل المعبر الفلسطيني في رفح والحصار الإسرائيلي وعدم وجود منافذ للنازحين كما كان الحال خلال فترة النكبة الفلسطينية، حيث غادر بعض الفلسطينيين عبر ممر رفح، كما كان يسمى، متجهين إلى مصر وغيرها من الدول العربية كلاجئين. يقول لـ "العربي الجديد": "أثناء النكبة، كنا نمشي حفاة وكانت الشوارع رملية والوقت صيفاً. اهترأت النعال الجلدية التي كان يرتديها البعض. كنت في الـ 13 من العمر. اليوم، نمشي والطائرات تحلّق فوق رؤوسنا وندرك أنها قد تقتلنا في أي لحظة. يملك الاحتلال تكنولوجيا وآليات عسكرية متطورة، ويلاحقنا بحقده".
الحمامي من بلدة حمامة المحتلة عام 1948 وتقع في الجنوب الغربي من الساحل الفلسطيني وشمال مدينة المجدل التي غيّر اسمها الاحتلال الإسرائيلي إلى أشكلون. يتذكر أنه عندما خرج برفقة عائلته سيراً على الأقدام، جاءت شاحنات كبيرة لنقلهم إلى مدينة غزة في الجنوب. يتذكر أيضاً بعض الجيوش العربية التي دخلت وطلبت منهم العودة إلى الخلف للحفاظ على حياتهم، وأخبروهم أنهم سيعودون قريباً إلى بلدهم بعد تحريره. يتذكر فرحته حينها التي انتظرها طويلاً إلا أنها لم تتحقق وصدم بواقع اللجوء. يضيف: "ما أراه اليوم يفوق ما رأيته خلال النكبة. كنّا قد هجرنا ولاحقنا القتل والدمار، بكيت حينها وأنا في الـ 13 من عمري على منزلنا وقريتنا التي كانت قريبة من بحر جميل جداً اعتدت السباحة فيه. بكيت عندما نزحت من مخيم الشاطئ الذي سكنت فيه عقب النكبة مجبراً. هذه المرة، كنت أسير وأنا أدرك أنني سأودع أبنائي وأموت. كنت أتمنى الموت في بلدة الحمامة، واليوم أمنيتي هي الموت في مخيم الشاطئ".
الحمامي هو أحد القلائل من جيل النكبة الذين ما زالوا على قيد الحياة في قطاع غزة، ويعيشون ظروفاً صعبة ونكبة جديدة خلال العدوان الحالي وحالة النزوح الصعبة، وخصوصاً أن الاحتلال الإسرائيلي يملك وسائل قتالية وحربية أكبر وأكثر فتكاً مما كان عليه الحال أثناء سيطرة الجماعات الصهيونية المسلحة على القرى والمدن الفلسطينية.
من جهته، كان محمود ياغي يبلغ 15 عاماً من العمر عندما حلت النكبة على الشعب الفلسطيني عام 1948، وهُجّر من قرية المسمية في السهل الساحلي الجنوبي، وكانت تتبع لواء غزة وتقع إلى الجنوب من مدينة الرملة. اليوم، يبلغ من العمر 91 عاماً، وهو من بين أكبر رجال العائلة الذين يوجدون في بلدان الشتات الفلسطيني نتيجة اللجوء إثر النكبة. كان قد تعلم في مدرسة المسمية التي على الطريق المعروف بـ "يافا-القدس".
وعلى الرغم من الأمراض المزمنة التي يعاني منها، وصعوبة حركته وتنقلاته وعدم تذكره بعض التفاصيل الحديثة، إلا أنه لا يزال يذكر تفاصيل النكبة وكأنها حدثت أمس. في الوقت الحالي، يعيش برفقة أبنائه وأحفاده وهم من الجيل الرابع للنكبة، ولا يتوقف عن إخبارهم عما قبل النكبة وما بعدها أثناء النزوح بسبب العدوان الحالي.
يعيش ياغي أوقاتاً صعبة جراء النزوح في المنطقة الجنوبية لقطاع غزة، التي عزلها الاحتلال عن الشمال، مشيراً إلى أن العدوان الحالي هو الأكثر قسوة على الغزيين جميعاً. فخلال فترة النكبة، كانت مؤسسات دولية مثل الصليب الأحمر ومؤسسة الكويكرز الأميركية تعمل على مساعدة الناس، وكانت المساعدات والأغذية تصل إلى اللاجئين وأطفالهم.
يقول ياغي لـ "العربي الجديد": "كنت دائماً أقول إن ما شاهدناه خلال النكبة هو الأصعب في حياة الفلسطينيين. ربما تكون أصعب لأننا خسرنا أراضي كثيرة ولا نعرف أي جيل من الأجيال المقبلة سيكون قادراً على إعادتها لأنها حقنا كالشمس ولا بد أن تعود، لكن تفاصيل النزوح والإذلال والقتل والدمار والجوع والعطش في هذا العدوان هو الأقصى على حياتنا بكل تفاصيلها". يضيف: "نحن جيل النكبة لا نأمل من تحرك الأمم المتحدة وغيرها خيراً لأننا عشنا وهماً كبيراً في طفولتنا. سمعنا من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الكثير من الخطابات والشعارات المزيفة. لا نستطيع أن نسافر أو نهرب. وننتظر أن يستجيب أي أحد لعل الحرب تتوقف".
من جهته، يعيش إسماعيل الشريف (88 عاماً) في إحدى المدارس في مدينة رفح، وهو من مدينة المجدل المحتلة على الساحل الفلسطيني الغربي. قبل النزوح الأخير، كان يعيش في حي الكرامة شمال قطاع غزة، وعمل مدرساً لمدة 30 عاماً في السعودية، وكان يحكي لطلابه هناك عن حكايات النكبة، وأصبح يحكي لأحفاده وأبناء أحفاده عنها. ولم يتوقف عن الحديث عنها في مكان وجوده في مركز الإيواء حفاظاً على الذاكرة. يقول الشريف لـ "العربي الجديد": "أخاف على الغزيين أن يعيشوا فرحة العودة لبيوتهم التي هي أساساً بيوت لاجئين وبيوت في مخيمات ويصدموا بالواقع الأسوأ ويضطروا للانتظار حتى تتفق الأمم المتحدة وقوى العالم على مصالحها قبل مصالحنا. عشت حلم العودة ولم أعد مطلقاً، وبقي الحلم لديّ. لكن هذا العدوان قتل الكثير في داخلي. ما شاهدناه هو نكبة كبيرة تحت اسم نكبة غزة".
وفيات من جيل النكبة
الحزن كبير ولا ينحصر برؤية المسنين من جيل النكبة ينزحون من جديد. هؤلاء ودعوا بعضاً من أصدقائهم من الجيل نفسه أثناء العدوان الحالي، وآخرين بسبب المرض وتقدم السن وعدم تحملهم مشقة النزوح المتكرر، على غرار مريم حمدان وهي من مدينة يافا المحتلة في عام النكبة. توفيت عن عمر يناهز 85 عاماً كما يقول حفيدها إسلام حمدان (40 عاماً) الذي حفظ الكثير من حكاياتها عن يافا، منها أراضي البرتقال وتصدير هذه الفاكهة. كان والدها مزارعاً في أرض كبيرة تعود لعائلة الحوت، لافتاً إلى أن الكثير من الجماعات الصهيونية كانت تحاول سرقة الأراضي وشراءها منهم وبما فيها، وقد رفض والد جدته الأمر.
حمدان هو أحد الذين ورث عن جدته لباسها، وهو ثوب فلسطيني مطرز على الطريقة اليافاوية، ويبرز فيه اللون البرتقالي الذي يرمز إلى برتقال يافا، بالإضافة إلى اللونين الأسود والأحمر وغيرهما. لكنه يشعر بحزن كبير على جدته هي التي سمّت ابنته الكبرى يافا وهي طالبة جامعية حالياً. كما يشعر بأنه فقد عموداً أساسياً لعائلته، التي كانت تردد أنها تتمنى الموت واقفة. وبالفعل، وعلى الرغم من الأمراض، كانت تستطيع الحراك ومقاومة الأوجاع.
يقول حمدان لـ "العربي الجديد": "جدتي كانت ذاكرتنا ومرجعيتنا في العائلة. حتى إننا كنا نسألها عن أحفاد الأحفاد فتتذكرهم. كانت عيونها جميلة وملونة، وقد ورث طفلي لون عينيها. لكنها كانت مريضة ولا تقدر على الحراك كثيراً. كانت تعاني من أمراض القلب والضغط، ولم تستطيع التحمل، حتى أنها عندما كانت تمشي كثيراً كانت تتنفس بصعوبة ولا تستسلم. لكن الموت كان أقوى منها".