قبل الحرب الروسية على أوكرانيا عاشت مجتمعات كثيرة غالبيتها في مناطق جنوب الكرة الأرضية، مصنّفة بأنها أقل ثراءً ونمواً من دول الشمال، نتائج كارثية للتغيّرات المناخية، وأهمها على صعيد احتباس الأمطار والجفاف وانحسار المساحات الزراعية، وذلك وسط الفساد المستشري فيها وغياب السياسات المناسبة الخاصة بتحسين الأمن الغذائي ومعالجة مشاكل الاعتماد على الاستيراد من الخارج. وحوّلت هذه الحال طبقات اجتماعية في هذا الدول إلى الفقر، ثم اندلعت الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، ما زاد حجم المأساة بعدما ارتفعت أسعار الغذاء في شكل غير مسبوق، وانضم خلال أسابيع قليلة فقط 100 مليون إنسان إلى 700 مليون آخرين مصنفين دون خط الفقر في العالم، ولا يتجاوز دخلهم اليومي 1.90 دولار.
وكان العام الماضي قد شهد، بحسب مؤشرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة (فاو)، ارتفاعاً في أسعار الغذاء بنسبة 28 في المائة، أما الحرب في أوكرانيا فجلبت معاناة إضافية على صعيدي الطاقة والغذاء، ما يهدد بأزمات اجتماعية تفجر أوضاعاً مشحونة أصلاً لبشر واقعين تحت رحمة الفقر.
ويرى خبراء ومحللون أن انفجار "ثورات الجوع" والتوترات الأمنية قد تكون بين أبرز نتائج تأثيرات الحرب في أوكرانيا، خصوصاً في الدول الفقيرة. وحدد تقرير أعدته منظمة "الفاو" نسبة ارتفاع الأسعار في مارس/ آذار الماضي بنسبة 12.6 في المائة، ووصف بأنه "تاريخي وغير مسبوق شمل نحو 95 سلعة أساسية، وهو مجرد بداية لارتفاعات أكثر صعوبة خلال الفترة القادمة".
وإذا كانت مجتمعات دول الشمال، مثل تلك في إسكندنافيا وشمال أوروبا، تجد شبكات أمان ورعاية ورفاهية، باعتبار أن حكوماتها تنتهج سياسات للأمن الغذائي، يرى الخبراء أن توالي الأزمات المعيشية في دول الجنوب الفقيرة ينذر بانفجار يشبه "ثورات جوع".
وفي دول تعيش مجتمعاتها أصلاً على حافة الفقر المدقع، وبينها في الشرق الأوسط، يهدد اتساع نطاق الجوع والعوز الاستقرار والسلم الاجتماعي، وهو هشّ في بعضها، علماً أن تقارير أصدرتها جهات دولية متعددة، بينها "فاو"، حذرت من أن انقطاع تصدير السلع الأساسية، بينها القمح والزيوت التي تصدّر روسيا وأوكرانيا نسبة 30 في المائة منها إلى السوق العالمي، سيؤثر على المجتمعات الفقيرة في شكل أكبر من تأثير ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثرية.
بدوره، حذر المدير العام لبرنامج الأغذية العالمي دافيد بيسلي في 7 مارس/ آذار الماضي في مقال رأي كتبه في صحيفة "واشنطن بوست" من مخاطر دفع مئات ملايين الأشخاص نحو مزيد من الفقر والجوع نتيجة الحرب في أوكرانيا. واعتبر أن "النتائج ستكون كارثية على المجتمعات الفقيرة"، وهو ما أيده أيضاً متخصصون أوروبيون ربطوا انقطاع سبل تأمين مستلزمات البقاء باحتمال اندلاع ثورات في دول فقيرة. كذلك تحدث مدير منظمة الزراعة والغذاء الدنماركية مارتن كريستيان براورر لصحيفة "بيرلنغسكا" عن ثورات اجتماعية وكوارث جوع قادمة في دول الجنوب مثل تونس وليبيا واليمن والسودان وكينيا وتنزانيا.
أحجار "دومينو" حرب أوكرانيا
ومؤخراً يزداد النقاش الأوروبي في شأن ضرورة رفع مستوى التحذير من أن تضرب المجاعة والأزمات مجتمعات الدول الجنوبية المجاورة للقارة، ما قد يحدث أزمة هجرة جديدة نحو أوروبا. ولمّحت منظمة "السلام الأخضر" إلى نتائج عكسية لأزمة الغذاء والوقود على الفقراء، مذكّرة بأن "أزمة الفقر والغذاء شكلت محركاً قوياً لثورات مجتمعات الربيع العربي عام 2010". وقالت إنه "مع انضمام طبقات كثيرة إلى الفقراء أخيراً ستشكل الزيادة الجديدة في الأسعار وانتشار الجوع مقدمة لانتشار احتجاجات اجتماعية وسياسية ونزول الشعوب إلى الشوارع، ما قد يؤدي إلى صدامات وصراعات عنيفة".
وقد سارعت الدول الأوروبية فعلياً إلى اتخاذ إجراءات، وبدأ الاتحاد الأوروبي تحديداً في البحث عن حلول مشتركة لتخفيف وطأة الارتفاع الكبير لأسعار الطاقة خشية اندلاع احتجاجات اجتماعية، لكن دول الجنوب تركت لمواجهة العقبات بنفسها، ما يهدد بانفجارات اجتماعية قد تنعكس على أوروبا نفسها.
وأشار مدير منظمة "وان" البريطانية غير الحكومية للتنمية، دافيد ماكنير، إلى أن "ارتفاع الأسعار يلعب دوراً كبيراً في جعل الأوضاع الاجتماعية والاستقرار في دول الجنوب تواجه حال تدحرج أحجار الدومينو نحو مزيد من الفقر والجوع، فسكان هذه الدول هم الأشد فقراً في الأساس، وغالبية الأموال التي يكسبونها تذهب لتأمين لقمة العيش. ومع زيادة الأسعار لن يستطيعوا سد الجوع".
يضيف: "شهدت مصر مثلاً ما يسمّى انتفاضة الخبز عام 1977، وأعقبها ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر في مجتمعات بدول شرق أوسطية وأخرى في شمال أفريقيا، ما أدى إلى اضطرابات لم تهدأ ولم تنته أسبابها. والأمور حالياً ذاهبة نحو اضطرابات واسعة تذكر بشرارة الربيع العربي التي لعب الوضع المعيشي دوراً أساسياً فيها، رغم أنها رفعت شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وباعتبار أن الأسعار اليوم باتت أعلى بكثير مما كانت عليه عام 2011، يخشى أن تؤدي الأزمة الحالية إلى مزيد من الاضطرابات".
وفي مارس/ آذار الماضي، قالت المسؤولة في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عبير عطيفة لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية: "تتسبب الحرب في أوكرانيا بجوع ونقص في الغذاء في أماكن أخرى تواجه احتمال عدم الاستقرار والعنف، ويأتي ذلك في وقت لا يحتاج فيه العالم فعلياً إلى صراع آخر".
وأضافت: "إذا كانت التغيّرات المناخية والجفاف الذي أصاب مناطق كثيرة في دول الجوار الأوروبي الجنوبية عمّقت أزمات هذه المجتمعات خلال العقدين الماضيين، تصب الحرب في أوكرانيا حالياً الزيت على جمر الاحتقان في شوارع تستطيع بالكاد شراء زيت الطهي، ولا تملك قدرات على تأمين مستلزمات البقاء على قيد الحياة".
مجتمعات الشرق الأوسط "مقلقة للغاية"
ويصف المركز الدولي لبحوث سياسات الغذاء الأوضاع في مجتمعات الشرق الأوسط بأنها "مقلقة للغاية، وبينها في مصر ولبنان والمغرب واليمن وسورية التي يتوقع أن تشهد اضطرابات متعلقة بالفقر والجوع، ويحذر المركز من أن توسيع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوباتهما على روسيا لتشمل الطاقة سيؤدي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار يجعل دول الجنوب لا تنشغل فقط بسد رمق الجوعى، بل بالتخبط في مشاكل الخراب الذي سيضرب استقرار مجتمعاتها من خلال احتجاجات وثورات شعبية ستترافق أيضاً مع موجات ضخمة من اللجوء والهجرة نحو الغرب. من هنا تبدو أوروبا قلقة جداً بالتزامن مع معالجتها مشكلة ملايين اللاجئين الأوكرانيين، علماً أنه ليس من مصلحتها مشاهدة تفجر أوضاع مجتمعات مجاورة لها بسبب الفقر والجوع. لكن ذلك لا يمنع أيضاً مواجهة سياسات بروكسيل انتقادات بسبب غياب الخطط الحقيقية للحد من العواقب الكارثية على مجتمعات الجنوب الفقير".
ولا يستغرب المركز اهتمام الأوروبيين بأوكرانيا في البداية، "لكن لا يجب إغفال ما يتوقع أن يحدث من موجات توتر في جنوب الكرة الأرضية، حيث لا يستثمر الأوروبيون الكثير لتخفيف آثار نقص الغذاء وغياب السياسات الحقيقية لمواجهة اتساع رقعة الفقر والجوع".
وقد اختارت أوروبا منذ ما يسمى "أزمة اللاجئين" تخصيص موارد لبرامج التنمية في الدول النامية لمواجهة عملية دمج مئات آلاف القادمين الجدد عامي 2015 و2016. ومع وصول اللاجئين الأوكرانيين يخشى كثر، بينهم منظمة "وان" في لندن، أن تذهب أوروبا نحو خفض المساعدات الخارجية، وتخصيصها لمواجهة تدفق الملايين.
في الإجمال، يرى خبراء أن تركيز أوروبا على تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار والأعباء المرافقة للحرب في أوكرانيا على مجتمعاتها، بالتزامن مع تراكم أزمات مجتمعات حوض المتوسط وأفريقيا بعد سنوات من جمود الإصلاحات وتردي الأوضاع المعيشية، وانضمام ملايين إلى طوابير الفقراء، سيؤدي في نهاية المطاف إلى "ثورات خبز وجوع" في دول الجنوب.