لا جنسية واحدة لجورج فهد مالك. هو نفسه لا يعرف الإجابة. لكنه الرجل الذي أحب الفيزياء النووية والأزياء، ليترك العلوم ويجلس خلف ماكينة الخياطة.
"إذا سألتني من أنا؟ تكثر اللّاءات. أنا لبناني؟ لا. أنا سوري؟ لا. أنا فلسطيني؟ أيضاً لا. لكن من أنا؟ أنا مجموعة من كل هؤلاء". هكذا يبدأ أستاذ الفيزياء النووية، جورج فهد مالك، حديثه لـ "العربي الجديد"، مضيفاً: "جنسيتي فلسطينية، ولكن لم أعش في فلسطين ولا في سورية، إنما ولدت هنا في راشيا الوادي (قرى قضاء راشيا في محافظة البقاع) في لبنان عام 1949".
مالك الذي حاز شهادة دكتوراه في الفيزياء النووية عام 1986، يقول إنه توقف عن العمل في تخصّصه عام 1995 ليعيد بعدها الحياة إلى محل الخياطة الذي ورثه عن والده، وقد تعلّم هذه المهنة منذ نعومة أظفاره. يشعل لفافته التي لا تفارقه، ثم يقلّب جواز سفره الفلسطيني الذي حصل عليه عام 1969 بداعي السفر للدراسة، مستعيداً الذاكرة التي لم تنقطع. ويقول: "عام 1975، أنهيت دراستي الجامعية في موسكو، وتخصّصت في مادة الفيزياء لأسافر بعدها إلى موريتانيا وأدرّس في جامعاتها حتى عام 1980. عدت مجدداً إلى موسكو، وأتممت دراسة الدكتوراه في تخصص الفيزياء النووية، ثم انتقلت للتدريس في ليبيا حتى عام 1994".
يتابع مالك: "خلال دراستي الدكتوراه، شاركت في مؤتمرات عدة، منها مؤتمر علمي في سويسرا عام 1984 حول الطاقة النووية الحرارية. وفي أثناء وجودي في ليبيا، أجريت أبحاثاً علمية، منها بحث قدمته إلى مؤتمر دولي في الهند شاركت فيه عام 1989، وكان ذلك آخر نشاط علمي لي. فالوجود خارج مراكز علمية وجامعات مهمّة يؤدي إلى تراجع الشخص على المستوى العلمي. وبعد عام 1994، عدت لأستقرّ في لبنان، وتوفي والدي، ووالدتي التي كانت مريضة اضطرّتني إلى البقاء بجوار العائلة".
ويشرح مالك بإسهاب عن تخصصه، قائلاً إنه "الفيزياء النظرية، وبشكل أدق الاندماج النووي الحراري. عملياً، لم يتمكن العلماء من حل هذه المشكلة. الطاقة النووية السلمية موجودة بشكلين: أولاً الطاقة الذرية، كما المفاعلات الذرية لإنتاج الكهرباء تعتمد على اليورانيوم، بينما طاقة الاندماج النووي الحراري تعتمد على التحام نظائر الهيدروجين بعضها مع بعض مثل الهيليوم، كما هو حال التفاعل الذي يحصل في الشمس، وهذا موجود في القنبلة الهيدروجينية. أما في الإنتاج السلمي للطاقة، فالعلماء عاجزون حتى الآن عنه، وحالياً يبنون مركزاً ضخماً في سويسرا بالتعاون بين دول مثل روسيا وأميركا واليابان والأوروبيين". ويقول: "أحببت تخصصي وأحب الخياطة وتصميم الأزياء".
يتابع مالك: "عام 1994، درّست سنة واحدة في الجامعة اللبنانية في مدينة زحلة (محافظة البقاع)، في وقت كنت آمل الحصول على الجنسية اللبنانية لأدخل في ملاك الجامعة والتعليم الرسمي، ما يؤمن مستقبل أفضل لي ولعائلتي، لكن توقفت عن التدريس وتوجهت إلى العمل في الخياطة". ويلفت إلى بيته وما يعانيه اللاجئ الفلسطيني في عالمنا العربي للحصول على أبسط حقوقه، قائلاً: "أصل عائلتي من لبنان، هرب جدّي إلى سورية منذ عشرات السنين بسبب الحروب وولد أبي هناك، وعندما أصبح شاباً ذهب إلى فلسطين وحصل على الجنسية الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي، وظل والدي وأعمامي يترددون دائماً إلى راشيا الوادي لقضاء الصيف فيها. وفي إحدى الزيارات تعرّف والدي إلى والدتي، وهي من بلدة عيحا المجاورة لبلدة راشيا الوادي، فتزوّجا وذهبا معاً إلى فلسطين".
يصمت قليلاً ثم يتابع: "في أثناء النكبة عام 1948، عادا إلى راشيا الوادي وبقيا فيها نحو عامين، ثم ذهبا إلى سورية مدة من الزمن ليعودا ويستقرّا نهائياً في راشيا الوادي، وافتتح والدي محلّ الخياطة هذا حيث تربّيت وعملت مع والدي في الخياطة منذ نعومة أظفاري. لذلك، فهذه المهنة موجودة في دمي. أحببتها لما فيها من فن وذوق".
وعن وضعه كلاجئ فلسطيني في لبنان، يقول: "اللّاجئ يعتبر من دون جنسية أو أي هوية. وكلاجئ فلسطيني أنا ممنوع من الكثير من الحقوق، وهذه ليست مشكلتي، بل مشكلة الكثير من الفلسطينيين الموجودين في لبنان. لذلك، بصورة عامة، فإن أكثرية الذين أعرفهم أينما وجدوا فرصة أو مجالاً للهجرة هاجروا. أما أنا فلست مضطراً إلى الهجرة". يضيف: "زوجتي روسية تعيش وأولادي في موسكو لأنهم كفلسطينيين ليس لديهم مستقبل في لبنان، وأنا أمضي فصل الشتاء عندهم ونعود صيفاً إلى لبنان. ومنذ أزمة كورونا لم أذهب إليهم، ولم يأتوا إليّ".
مالك الذي ولد عام 1949 في راشيا الوادي، وترعرع بين جنباتها وسوقها الأثري العتيق، وهو ابن الطائفة الأرثوذوكسية، تأثّر بمحيطه حتى الاندماج، فهو لا يكاد ينطق حرفاً من اللهجة الفلسطينية، بل يتحدث بعفوية بلهجة راشيا الوادي التي يغلب عليها طابع لهجة الموحدين الدروز التي تتميز بنطق حرف القاف على عكس باقي اللهجات اللبنانية: "أنا متعايش مع بيئتي بشكل كامل وأصدقائي من مختلف الطوائف، دروز ومسيحيين، وأكثر أصدقائي في أثناء الدراسة في الخارج هم من المسلمين".
وعن لهجته، يروي طرفة أنه قدّم طلباً لدى منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1969 للحصول على منحة للدراسة في موسكو. ويقول: "عندما بدأت التحدث مع العاملين في مكتب المنظمة في بيروت، أجابني أحدهم: أنتم -اللبنانيين- يمكنكم الحصول على منحة من طريق الحزب الشيوعي اللبناني أو الأحزاب اليسارية اللبنانية، فقلت له هيدا (هذا) جواز سفري فلسطيني. إذا كانت لهجتي لبنانية فلا يجوز أن أكون فلسطينياً؟ وبعد التحقق والتدقيق أرسلوا لي الطلب وقُبلت للدراسة في روسيا".
منذ عام 1994، ابتعد مالك نهائياً عن تخصصه، ليجلس خلف ماكينة الخياطة التي أحبّها وورثها عن والده، فأتقن الخياطة وأحبّها، وكان جلّ زبائنه من طائفة الموحدين الدروز الذين أحبّوا تصاميمه للزي التقليدي الخاص بهم، قائلاً: "أخيط كل شيء، وأكثر ما يعجبني خياطة الزي الدرزي للرجال والنساء، وبشكل خاص النساء، نظراً لما فيه من ذوق رفيع وفن جميل لأن الزي الدرزي لا يمكن العثور عليه في محال الألبسة الجاهزة، ولونه فقط أسود، وهو يحتاج إلى دقة وزخرفة أكثر ليظهر جماليته، وخصوصاً تلك الألبسة التي يرتدونها في مناسبات الأفراح".
لكل فلسطيني تغريبته وجواز سفره، إلّا أن مالك تصالح مع تغريبته وعاشها كما هي، واندمج مع محيطه إلى أن بات جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الذي يعيش فيه، على الرغم من عدم نسيانه أو تناسيه لماضيه وجذوره.