موجعةٌ قصص اللاجئين السوريين المتضرّرين من إحراق مخيم بحنين - المنية، في عكار شمالي لبنان، ومؤلمةٌ مشاهداتهم وشهاداتهم الحيّة. بالحسرة والدموع يختزلون ليلةً حلّت عليهم كالفاجعة، وأشعلت برصاصها وألسنة نيرانها، أبسط أحلامهم وآمالهم باستقرارٍ وأمانٍ اجتماعي ونفسي، يحفظ حياتهم وحياة أطفالهم، وهم الذين هربوا منذ سنواتٍ من قصف المدافع والحرب الدائرة في وطنهم.
المخيم الذي يحمل الرقم 009، والذي يضمّ بغالبيّته لاجئين من مدينتَي الحسكة والقامشلي، وآخرين من حمص، تشرّدت عائلاته بأكملها وتوزّعت على المخيمات المجاورة ولدى أهالي بلدة المنية وطرابلس وعكار وغيرها من المناطق، بعدما شهده ليل السبت - الأحد الماضي من إشكالٍ بين شبّان لبنانيين وعمّال سوريين، تطوّر إلى إطلاق نار في الهواء من قبل اللبنانيين، قبل قيامهم بإحراق المخيم.
صبحية حسين العمر، زوجة شاويش (المسؤول عن شؤون) المخيم، تروي لـ"العربي الجديد" كيف هرع اللاجئون و"أهالي الخير" لحظة إطلاق الرصاص واندلاع النيران إلى نجدة بعضهم بعضاً، وسحب الأطفال والنساء وكبار السن من الخيام باتجاه الجدار "وهو المنفذ الوحيد المتبقّي لهروبنا بعدما جرت محاصرة المخيم من مدخَليه". تقول: "قفزنا فوق الجدار، على ارتفاع نحو 3 أمتار، أنا وأولادي الخمسة، علماً أنّ ابني الصغير لا يتجاوز السنة. وكذلك كانت حال جميع أهالي المخيم، الذين كانوا بأغلبهم داخل خيامهم قبل وقوع الحادثة الأليمة". تضيف: "كان وقت المساء والطقس شديد البرودة، ونحن مجتمعون حول المدفأة ننوي تناول العشاء، قبل أن نسمع صراخ أحدهم يردّد: يريدون أن يحرقوا المخيم، فهربنا بما علينا من ملابس، مشياً وهرولة، وخسرنا كلّ ما نملكه من خيام ومقتنيات، لم نأخذ أيّ شيء. خسرنا كغيرنا البراد، والغسالة، والغاز، والستائر، والتلفزيون، وفرشات النوم، والمؤونة الغذائية المنزلية، والمال والأوراق الثبوتية. بالكاد، نفذنا بأرواحنا وأرواح أولادنا". صبيحة التي توقّعت حرق المخيم بعد الإشكال، تضيف: "لا يقوون على السوريين إلاّ بحرق مخيماتهم" واصفةً "حال الخوف والذعر ليلتها، إذ إنّ كلّ لاجئ سوري خاف على نفسه، من احتمال أن يتعرّض مخيمه للهجوم والحرق. ليلتها لم ننم، ولم ينم أيّ أحد من أهالي المخيمات المجاورة، وهي خمسة مخيمات".
والدة الأطفال الخمسة، الذين وُلد ثلاثة منهم في لبنان، كانت قد لجأت وعائلتها من سورية قبل نحو ست سنوات. وتشير إلى أنّ زوجها يعمل بأجرة يومية في الأراضي الزراعية و"أنا أعمل عندما تسنح لي الفرصة. نريد أن نعيش فحسب. لقد عملت بالزراعة وفي مصنع للبلاستيك، لكنّني أعاني اليوم من آلامٍ في الظهر تمنعني من العمل، لذلك تلجأ ابنتي الكبرى (15 عاماً) للعمل أحياناً". وتتابع: "مأساة ليل السبت - الأحد شرّدتنا جميعاً، فمنّا من يعيش اليوم عند أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه أو أصحاب عمله، أو لدى منازل أهل الخير. أمّا نحن فنعيش حالياً في مخيم أبو عبير المجاور لمخيمنا".
من جهته، يقول عبد أحمد عبد، الذي لجأ إلى لبنان منذ عام 2011، إنّ "المخيم المتضرّر لم يشهد طوال هذه السنوات سوى إشكالاتٍ بسيطة، لكنّها المرة الأولى التي تتطوّر فيها الأمور إلى هذه الدرجة". يتابع لـ"العربي الجديد": "لم أكن موجوداً داخل المخيم في وقت الحريق، بل كنتُ أقدّم واجب عزاء. لكنّني هرعتُ فور سماعي بالحادثة لنجدة عائلتي، ولولا أصدقائي اللبنانيين المجاورين للمخيم، لخسرتُ زوجتي وأولادي السبعة، كونني وصلتُ متأخراً. فأنا أعاني من مشاكل في القدم ولا أقوى على المشي من دون العصا". عبد، الذي يعيش وعائلته حالياً في بيت لبناني إلى جانب المخيم، يكشف أنّه لا يعمل منذ فترة طويلة، وأنّه كان يعتاش من مساعدات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "لكن، مع الغلاء المعيشي في لبنان لم تعد هذه المساعدات كافية". ويشير إلى أنّ ابنَيه الكبيرين (22 عاماً و18 عاماً) يعملان في الحمضيات لإعالة العائلة، كاشفاً أنّه "بعد الحريق وصلتنا بعض المساعدات، كما قدم لنا صاحب البيت اللبناني، الطعام والشراب ومواد غذائية نتدبّر بها أمورنا أيضاً". ويختم بالقول: "المصيبة واحدة. نريد رحمة الله فقط".
"هربنا حفاةً، هرعنا إلى الحقول والشوارع، إنّها حقاً مذلّة، كأنّ اللجوء والتشرّد قدرنا" بهذه العبارات تصف أمينة دياب الناصر، ليلة الحادثة. وتقول لـ"العربي الجديد": "كنّا داخل الخيمة نتناول العشاء، وفجأة اندلعت النيران، فسارعتُ إلى احتضان ابني الوحيد الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، إنّه أول أولادي وأغلى ما أملك". بدمعةٍ وغصّة تسرد الناصر كيف تمكّنوا بالكاد من انتشال بطاقات هويتهم قبل الهروب عبر الجدار. وتضيف: "هربتُ وطفلي وزوجي، بالإضافة إلى زوجته الأولى وأولاده الخمسة. قضينا ليلتنا في الحقول المجاورة، أشعلنا ناراً للتدفئة، فالبرد كان قارساً، وجلسنا حولها من دون أن يغمض لنا جفن. فالمأساة كبيرة، وصباح اليوم التالي لحادثة إحراق المخيم، كان صعباً جداً. عدنا إلى أرضٍ محروقة كأحلامنا. أمّا في ليلتنا الثانية فرأف بنا صاحب الأرض واستضافنا في منزله، وما زلنا حتى اليوم (أمس). لكنّ مصيرنا مجهول، ويمكن القول إنّنا بلا مأوى دائم. لقد حُرقت خيامنا بعد أن تدمّرت بيوتنا في سورية". أمينة، التي يعمل زوجها في الزراعة وحراثة الأراضي، تتابع: "خسرنا كلّ شيء؛ غسالات، وبرادات، وأدوات كهربائية أساسية، وطباخ غاز، وفرن، وثياب، وبطانيات وكلّ ما جنيناه طوال سنوات لجوئنا".
أمّا اللاجئ عباس حمزة هفو، الأب لأربعة أطفال، فيختصر مشهد تلك الليلة بالقول: "لم نهنأ يوماً من مرارة اللجوء التي ترافقنا منذ 6 سنوات. أمّا في وقت الحادثة المشؤومة فقد كنّا جالسين في الخيمة عندما سمعنا أحدهم يصرخ: احترق المخيم... فسارعنا للهرب عبر الجدار باتجاه مخيم مجاور يعيش فيه أقاربنا". يضيف: "وصلتنا مساعدات غذائية وبعض المال والأدوية والحفاضات والحليب، غير أنّ مطلبنا الأساس إعادة إعمار مخيمنا، إذ يكفينا عذاب التشرّد مراراً وتكراراً، ناهيك عن كوني أعتاش منذ وقتٍ طويل من مساعدات مفوضية اللاجئين، فعملي في الزراعة هو بحسب الحاجة، وأتقاضى مقابل كلّ يوم عمل، 25 ألف ليرة لبنانية (نحو 3 دولارات أميركية وفق سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء)".
من جهته، يقول سرحان شحادة شويخ (أبو حلا): "كنتُ في المخيم مع زوجتي وأولادي الخمسة، وهربنا فقط بملابسنا التي علينا. خسرنا كلّ ما تعبنا لشرائه أو ادخاره خلال خمس سنوات من اللجوء". ويشرح لـ"العربي الجديد" كيف احتضن ابنه الصغير الذي لم يتجاوز السنة من عمره، وقفز وعائلته فوق الجدار "مشياً نحو 4 كيلومترات باتجاه خيمة تقع في منطقة ضهور المنية، يعيش فيها سبعة أشخاصٍ من أقاربنا، من القامشلي". ويقول: "لجأنا وآخرين إليهم، حتى بتنا اليوم نعيش قرابة 27 شخصاً في خيمةٍ لا تتعدّى الغرفتين". وإذ يتحدّث عن مساعداتٍ غذائية وفرش نومٍ وصلتهم أول من أمس، يضيف: "أنا عاطل من العمل منذ أكثر من شهر، بعدما كنت أعمل في الحمضيات، لكنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان انعكست سلباً علينا، وما كان ينقصنا إلا احتراق المخيم حتى تتضاعف مصائبنا. فالوضع مأساوي وصعب جداً، ونحن بأمسّ الحاجة إلى مساعدة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وإلى دعم المنظمات الدولية". ويختم أبو حلا بالقول: "أولادي مصدومون مما وقع، فمشهد ليل السبت - الأحد كان بشعاً ومروّعاً، وما زال يطنّ في أذنيّ صراخ النساء، كما بكاء الأطفال وأنين المسنّين".
هربنا حفاةً، هرعنا إلى الحقول والشوارع، إنّها حقاً مذلّة
من جهته، يشدّد اللاجئ السوري، ربيع الجميل، الذي يعيش في مخيم مجاور للمخيم المتضرّر، على "أهمية وأولوية إخماد فتيل الفتنة الذي يتمّ إشعاله يوماً بعد يوم، كما وقف التحريض ومشاعر الكراهية والعنصرية، فهناك ما يقارب مليون لاجئ سوري في لبنان وما من مصلحة لأحدٍ في تأجيج الوضع. وقد اجتمع بالأمس شيوخ وقبائل وعشائر لبنانية وسورية في مخيم أبو عبير، المجاور للمخيم المتضرر، سعياً إلى عقد الصلح فور إطلاق سراح الأبرياء من المعتقلين، فاللبناني أخٌ للسوري. وكلّ ما نريده اليوم إعادة تأهيل المخيم بخيامٍ مجهّزة بكامل مقوّمات الحياة الكريمة".
بدوره، يلفت رئيس اللجنة الاجتماعية السورية في طرابلس (شمال) محمد نحلاوي "أبو طه" إلى أنّ كثيرين من سكان المخيم يمضون ليلهم في المخيمات المجاورة ولدى سكان لبنانيين حالياً، لكنّهم يعودون نهاراً إلى أرض مخيمهم المحروقة بالكامل، كي لا يشعروا أنّهم عبء كبير على من ينامون لديهم.