أقرّت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية خطة جديدة تتضمن تعديلات على نظام التكوين تتضمن آليات معدّلة للالتحاق بالتعليم الجامعي تمهيداً للحصول على شهادات عليا. وحددت موعد بدء الموسم الجامعي التالي في سبتمبر/ أيلول المقبل لتطبيق الخطة التي تباينت التفسيرات والمواقف في شأنها، إذ يرى البعض أنها تشكل عودة ضمنية للنظام التعليمي الكلاسيكي عبر خطوات تدريجية، ويعتبرها آخرون إقراراً من الحكومة بإخفاق النظام الحالي في تحقيق أهداف التكوين الجامعي المثالي على صعيد النوعية ومواجهة مشاكل الكمّ الهائل لعدد المتخرجين بلا قدرات علمية تتناسب مع تطلعات تطوير قطاعات العمل.
تشير تقارير رسمية في الجزائر إلى أن عدد طلاب الجامعات يصل إلى 1.7 مليون، في حين كان 1800 عشية الاستقلال عام 1962، وأن عدد الجامعات والمراكز الجامعية يبلغ 100 تتوزع على أرجاء الوطن، إضافة إلى 14 مدرسة عليا وطنية مختلفة، بينها اثنتان لتطوير الذكاء الاصطناعي والرياضيات. وتحدد هذه التقارير عدد المتخرجين من الجامعات بـ 250 ألفاً سنوياً، وهو رقم كبير لكنه لا يلبي احتياجات سوق العمل لأسباب تتعلق بمضمون التكوين الجامعي ومقرراته والنظام البيداغوجي.
ودفعت هذه المعطيات الحكومة إلى طرح خطة جديدة أقرّت بنودها أخيراً، وتتضمن نظاماً جديداً للتعليم والتكوين في الدراسات العليا يلحظ اعتماد نظام مسابقات للالتحاق بالتكوين في الطور الثاني "الماستر" وفق العدد البيداغوجي المتوفّر بعد الحصول على شهادة "ليسانس" (بكالوريوس) أو معادلة شهادة أجنبية. كما أعلن القرار الجديد أن مدّة التكوين في الطور الثاني "الماستر" تمتدّ لسنتين، ما يعادل أربع سداسيات مع رسالة التخرّج التي تجب مناقشتها أمام لجنة علمية تقيّم عمل الباحث، وتمنحه درجات النجاح التي يستحقها.
واشترطت الخطة الجديدة أن تكون السنة الأخيرة للتكوين الجامعي في الطّور الأول "ليسانس" مرفقة بمذكّرة تخرج، أو تقديم عرض على صلة بالتكوين، ما يعني عودة نظام المذكرات في نهاية تكوين "الليسانس"، والذي كان مطبقاً قبل 18 سنة.
أهداف "ناقصة"
فتحت هذه الإجراءات نقاشاً واسعاً في أوساط الأسرة الجامعية، خاصة الأساتذة والباحثين، تناول نوعية التكوين ومدّته. وأبدى كثيرون اعتقادهم بأنه كان يفترض فتح حوار جدّي وجذري حول منظومة التعليم الجامعي في الجزائر يسمح بإجراء تقييم موضوعي للنظام الحالي (ليسانس لمدة ثلاث سنوات وماستر لمدة سنتين ودكتوراه لمدة خمس سنوات)، والمطبق منذ عام 2004، حين استبدل النظام الكلاسيكي (ليسانس لمدة أربع سنوات وماستر لمدة سنتين ودكتوراه لمدة ست سنوات).
من جهته، يطالب الأستاذ في علوم التربية بجامعة بوزريعة بالعاصمة الجزائرية، عبد الله كوريبة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بإعادة النظر في طريقة وشروط التكوين في الدراسات العليا ومقدار توافقها مع متطلبات سوق العمل، ويقول: "باتت الجامعات الجزائرية تحتضن البطّالين، إذ يتخرّج آلاف الطلاب بشهادات عليا سنوياً من دون تحديد أي أفق أو وجهة لمستقبلهم، ما يتعارض مع الأهداف التي رسمتها الحكومة عندما قرّرت تطبيق نظام أل. أم. دي (ليسانس. ماستر. دكتوراه)". يضيف: "يساهم اختيار النظام الجديد في توفير مناصب بيداغوجية للجميع في مرحلة الماستر، لكنه يترك في المقابل اختلالات بسبب عدم انسجام عدد المسجّلين في الطور الثاني من التعليم العالي مع قدرة استيعاب الجامعة للكمّ الهائل من الطلاب والمتخرجين".
عقدة غياب التطبيق الميداني
يقول أستاذ علوم الإعلام والاتصال في جامعة جيجل (شرق) هشام بطاهر لـ"العربي الجديد": "ليس معقولاً أن تتم مساواة من حصل على ماستر بعد اختبار أو مسابقة كتابية في الجامعة، بمن حصل على ماستر بدعم إداري، وتسجّل مباشرة من دون المرور بمسابقة". كما يشير إلى "أهمية قرار إعادة إقرار مذكرات التخرج بالنسبة إلى مرحلة الليسانس من أجل إعادة الاعتبار لمقياس المنهجية بشكل عام، فسنة واحدة تكوين في الجذع المشترك (طور ليسانس) لا تكفي للتحصيل العلمي للطالب، ما يعني العودة إلى النظام القديم أربع سنوات تكويناً قاعدياً لنيل شهادة البكالوريوس أو الليسانس".
بدورها، تقول أستاذة الاقتصاد في المعهد الوطني للتجارة بالعاصمة الجزائرية، وسيلة بن بوزة، لـ"العربي الجديد": "تكشف المنظومة التعليمية الحالية خللاً واسعاً، وتجعلنا أمام وضع يشبه عملية دمج لسنوات التكوين الأكاديمي من دون إكمالها بسنوات تطبيق ميدانية تتوافق مع مقررات القوانين الأساسية لنظام (أل. أم. دي)، وتستجيب لعروض سوق العمل والاقتصاد". وتدعو بالتالي إلى "دق ناقوس الخطر في حال استمر هذا الشكل من النظام التعليمي الذي يسير نحو إفراغ الشهادات العليا من محتواها، ويخطو نحو تحطيم ما جرى بناؤه لجيل كامل، علماً أنه يشدد على أن "الاعتراف بالخلل ومعالجته قبل أن يتفاقم ليسا خطأ أو عاراً".
محاولة معالجة الخلل
وكانت وزارة التعليم العالي استبقت عملية صياغة الخطة الجديدة، بعقد سلسلة ندوات ناقشت فيها النظام التعليمي الحالي، وأساليب تحسينه من أجل إيجاد نتائج تحقق معايير الجودة المطلوبة في القرارات النهائية، ومعالجة جملة اختلالات تُثير قلق الجهاز التعليمي الجامعي، وتعبّر فعلياً عن أزمة عميقة بدأت تتشكل قبل سنوات، وطفت نتائجها على واجهة التعليم الجامعي ونوعيته، بدءاً بعدد الطلاب الحاصلين على الشهادات العليا برتبة "بطّالين جُدد".
هذا الواقع يدفع البعض إلى مطالبة الحكومة بإجراء "عملية جراحية دقيقة" لتأهيل النظام المطبق حالياً. ويطالب البروفيسور الجامعي عبد العالي سلحاني أن تشرك وزارة التعليم العالي مختلف أعضاء الأسرة الجامعية والتربوية في تنفيذ تقييم شامل وصريح لنتائج تطبيق النظام الجامعي الحالي طوال 18 سنة. ويقترح تكييف النظام الجديد مع النظام الكلاسيكي وفق استراتيجية تعتمد التدرج في التطبيق، يعكِف على تنفيذها خبراء في القطاع مع التمسك بتفادي هدر جهود الطلاب الجامعيين الحاليين، ومراعاة رؤية الحكومة للاستثمار في الكوادر الجامعية.