في إطار "منتدى المدرسة والتحوّلات" الذي ينظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، ناقش باحثون مختصون في المجال التربوي، اليوم الجمعة، تميّز الفتيات في مجال الدراسة، وبحثوا أسباب تفوّقهنّ على الفتيان في هذا المجال وتحقيقهنّ المراتب الأولى.
وبحسب الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس محرز الدريسي فإنّ "الفتيات يتصدّرنَ قائمات الناجحين المتميّزين على المستوى الوطني وعلى المستوى الجهوي. كذلك تسير نتائج امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) نحو التأنيث"، مع تسجيل تفوّق واضح للإناث على الذكور في أعلى معدّلات شهادات البكالوريا، بالإضافة إلى حلول التلميذات في المراتب الأولى على صعيد الجهات.
وشرح الدريسي أنّ "في دورة 2022، كانت نسبة نجاح الإناث 61.49 في المائة في مقابل 38.51 في المائة من الذكور، وهو ما يمكن التأكّد منه بحسب الاختصاصات الدراسية أيضاً. فنسبة النجاح مرتفعة في اختصاص الآداب بنسبة 83.02 في المائة للفتيات مقابل 16.98 في المائة للفتيان. وفي اختصاص الرياضيات، أتت النسبة أعلى (...) ونجحت الفتيات بنسبة 54.38 في المائة مقابل 45.62 في المائة للفتيان. وفي العلوم التجريبية (سُجّلت) 77.44 في المائة للإناث مقابل 22.56 في المائة للذكور، وفي الاقتصاد والتصرّف 65.95 في المائة للفتيات مقابل 34.05 في المائة للفتيان". لكنّه أشار إلى أنّ "نسبة الفتيات دون نسبة الذكور في شعبتَي التقنية والرياضة".
وقال الدريسي إنّ "الظاهرة قديمة وتجاوزت نسب التدريس نحو التفوّق في مجالات عدّة أخرى". أضاف أنّ "ارتفاع نسبة تمدرس الفتيات هو نتيجة عراقة تدريس التونسيات منذ بداية القرن العشرين، إذ تأسّست أوّل مدرسة خاصة بهنّ سنة 1900، وتَواصَل الاهتمام باستثمار دولة الاستقلال في التعليم (التعميم، والإجبارية، والمجانية) بالنسبة إلى الفتيان والفتيات من دون تمييز، كما انخرطت العائلات في أولوية مشروع تعليم الأبناء من الجنسَين. لهذا تُمثّل فئة الفتيات أكثر من نصف التلاميذ المرسّمين بمؤسسات التعليم المدرسي". وتابع الدريسي أنّ "أعداد المتمدرسين من الإناث أعلى من الذكور في المرحلة الثانية من التعليم الأساسي والتعليم الثانوي. وبهذه النسب التي تتجاوز 50 في المائة، تكون تونس قد حقّقت الهدف الخامس من أهداف داكار المنبثقة عن المؤتمر العالمي حول التربية سنة 2000، وهو الذي أقرّ القضاء على التفاوت بين الجنسَين في التعليمَين الابتدائي والثانوي".
وأكّد الدريسي أنّ "المؤشّرات المرتفعة تتجاوز مسألة التمدرس، إذ تبرز إحصاءات وزارة التربية تفوّق الإناث على الذكور وتميّزهنّ في أغلب المستويات الدراسية، وأنّهنّ يحقّقنَ نسبة نجاح أفضل مما يسجّله الذكور في الامتحانات الوطنية.
وأوضح الدريسي لـ"العربي الجديد" أنّ "ثمّة عوامل نفسية لتميّز الإناث. فانطلاقاً من التنشئة الأسرية والمجتمعية وسط شعور بالضيم، يأتي هذا التفوّق محاولة لكي تبرز الفتيات أنّهنّ قادرات على تقديم الإضافة"، مشيراً إلى أنّ "جزءاً من الثقة في النفس تُستمَدّ من هذا التفوّق والنتائج الإيجابية". وأكد أنّ "هذا يفسّر نوعاً ما الحرص على التفوّق، وهو أمر إيجابي في جانب منه"، في حين لفت إلى "جانب خطر وهو أنّ هذا التفوّق يقابله تسرّب للذكور وفشل كثيرين منهم. وهو ما يدعو سلطة الإشراف (على التعليم) إلى النظر في هذا التميّز الذي قد يخلق تفاوتاً يؤثّر على المنظومة التعليمية".
من جهتها، قالت الأستاذة الجامعية في علم الاجتماع عائشة التايب إنّ "جلّ النسب تبيّن تفوّق الفتيات في الدراسة وفي النجاح (...) وثمّة رهانات عديدة تجعل الفتاة تتشبّث بالمدرسة وتدفع الذكور إلى الانعتاق منها". أضافت أنّ "علاقة الفتيات بالمدرسة تبدو كأنّها الطريق الأكثر أماناً للمستقبل". وإذ أشارت إلى أنّ "المجتمع لا يتسامح مع دخول الفتيات إلى أسواق العمل"، أكّدت أنّ "الفتيات يتمسّكنَ بالنجاح رغم ارتفاع البطالة".
وأوضحت التايب أنّه "إذا نظرنا إلى الظاهرة من ناحية إيجابية، فهي تجسيد لعقود من تحقيق المساواة وتعميم التعليم وهي انتصار للدولة والمجتمع، ولكنّ الظاهرة في باطنها تحتاج إلى التروي لأنّ تأنيث التعليم هو تأنيث للوظائف وخارطة توزيع الأدوار مستقبلاً، وهو ما يفرز خللاً". وبيّنت أنّ بطالة حاملات الشهادات العليا (30 في المائة) هي ضعف بطالة الذكور من حاملي تلك الشهادات (15 في المائة). ولفتت إلى أنّ "صدى التفوّق أو الثورة الصامتة للإناث يقلّان إذا نظرنا إلى سوق الشغل".
وشدّدت التايب لـ"العربي الجديد" على أنّه "لا بدّ من التدقيق في الظاهرة وأسبابها والبحث في نتائجها، من خلال دعوة الباحثين إلى إعداد دراسات ميدانية لأنّ ثمّة نقصاً بالفعل في الأبحاث حول هذا الموضوع في كلّ البلدان العربية، على الرغم من أنّ الظاهرة تُسجَّل في كلّ البلدان". وأكّدت أنّ "هذه الظاهرة سلاح ذو حدَّين، قد نزهو لأجلها لكنّ تداعياتها قد تكون مخيفة".
في سياق متصل، أفادت الأستاذة في علم الاجتماع بالجامعة التونسية منية الرقيق بأنّ "ظاهرة التفوّق المدرسي لدى التونسيات قد تعود إلى رهانات سياسية ومجتمعية ودينية في أواخر القرن 19 لإصلاح المجتمع. فثمّة ثورة سياسية ثقافية اجتماعية أدّت إلى ما نعيشه. والدولة الوطنية التي سبقتها الحركة الإصلاحية، دفعت نحو تعليم المرأة رغم معارضة البعض. وقد دافع علماء وفقهاء عن تعليم المرأة لتطوير المجتمع والعائلة"، في إشارة إلى "خروج المرأة من الفضاء الخاص إلى العام وتركيز التعليم على مسألة الاختلاط للدخول إلى المنظومة الحداثية ودعامتها المنظومة القانونية".
وشرحت الرقيق أنّ "النجاح المدرسي يقوم على مستويات عدّة، من بينها النجاح التربوي وكذلك الاجتماعي"، مبيّنة أنّ "كلّ برنامج تربوي يخفي وراءه مضامين وأيديولوجيا. وإذا ربّينا إنساناً متكاملاً فذلك بهدف الاندماج في المنظومة الاجتماعية". وأكملت أنّ "تفوّق المرأة نفسّره بتربية الفتاة على النظام والاحترام وبأن تكون محافظة على النظام المجتمعي". ورأت الرقيق أنّه "لا بدّ من ثورة لإرجاع الرجل إلى التعليم، لأن هذا أمر خطر في تكوين التمثلات المجتمعية لأنّنا هيّأنا الفتاة لتكون التلميذة المثال. فصحيح أنّ المرأة متفوّقة ولكن بأيّ ثمن كان هذا؟".
أمّا بالنسبة إلى المتفقدة (المراقبة) في التعليم الثانوي إنصاف فتح الله، فإنّ الأمر ليس مستجداً، "فمنذ أوّل قانون لإلزامية التعليم في 1958 لوحظ تفوّق الفتيات في كلّ مستويات الدراسة". أضافت أنّه من خلال تجربتها، الأمر يتطلب "مراعاة الفتيان، لأنّ نسب الانقطاع في المراهقة ترتفع والتمرّد كذلك"، مشيرة إلى أنّ الفتيان ينفرون من المؤسسة فيما تكون الفتيات أكثر تقبّلاً لها. وأوضحت فتح الله أنّ "المدارس منفرة للجنسَين ويفرّان منها، لكنّ لا حلّ أمام الفتيات، وهو ما يفسّر تفوّقهنّ. فالمدرسة قاطرة لهنّ مع هدف الوصول إلى الجامعة هرباً من النظام الأبوي. وترى الفتيات المدرسة ملاذاً لهنّ".
وتحدّثت فتح الله لـ"العربي الجديد" عن "عوامل مجتمعية وثقافية قادت إلى هذا التفوّق"، مؤكدة أنّ "الفتيات تاريخياً خرجنَ إلى المدارس وكنّ متفوّقات. وقد وصلت المرأة بالتالي إلى مواقع عدّة رغم عراقيل عدّة". وبيّنت أنّ "الرجل موجود في مواقع القرار وسوق الشغل أكثر من المرأة بسبب الأمومة التي تحدّ من فرصها في البحث عن عمل، وبالتالي يخمد نشاطها".