كشفت دراسة للأمم المتحدة صدرت في نهاية مارس/ آذار الماضي، حول سعادة المجتمعات ومدى مقاومة الفساد، أنّ تونس احتلّت المرتبة 122 من أصل 149. هل يرتبط ذلك، بشكل أو بآخر، بعدم تصريح مواطنين كثر عن آلامهم النفسيّة؟
لطالما اعتاد تونسيون كثر أن يعانوا بصمت، عندما يتعلّق الأمر بأمراض واضطرابات نفسية وعقلية، فهؤلاء يرفضون فكرة العلاج النفسي بأشكاله المختلفة لأسباب عدّة أبرزها ما هو اجتماعي بالإضافة إلى المادي. واليوم، في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالتونسيين منذ سنوات، ازدادت الضغوطات النفسية بأشكالها، خصوصاً في الفترة الأخيرة مع انتشار فيروس كورونا الجديد، وغرقت أعداد أكبر منهم في الصمت. وعلى الرغم من تطوّر الوعي المجتمعي في تونس وتحسّن المؤشرات الصحية ومناخ الحريات العامة والأكاديمية، فإنّ قسماً كبيراً من الشعب التونسي لم يتجاوز بعض الأفكار المسبقة، وبالتالي يحجم عن زيارة متخصص نفسي، سواءً أكان طبيباً متخصصاً في الأمراض النفسية والعقلية أو معالجاً نفسياً. يأتي ذلك في حين تسجّل تونس ارتفاعاً غير مسبوق في الأمراض النفسية، وعدد منها يُعَدّ من أمراض العصر، من قبيل الاكتئاب والضغط النفسي. وتُضاف إلى تلك اضطرابات، من قبيل الفصام والاضطراب ثنائي القطب، التي ما زال كثيرون يخشون الإفصاح عنها. وتنعكس هذه الأمراض والاضطرابات على الحياة اليومية للمصابين بها وعائلاتهم وعلى مختلف الأنشطة التي يقومون بها.
ويقول الخبير في علم الاجتماع حسن موري لـ"العربي الجديد" إنّ "أسباباً عدّة تقف وراء عدم رغبة التونسي في الإفصاح عن اضطرابه النفسي، حتى أنّه لا يقرّ لنفسه بحالته المرضية، على الرغم من أهمية ذلك في رحلة العلاج". ويشرح أنّ "السبب الرئيسي هو اجتماعي، إذ إنّ التونسي يخشى الوصم بالمرض، خصوصاً النفسي منه. بالنسبة إليه أن يُشار إليه بعبارة مجنون وبالمريض النفسي هو تقزيم وتحقير". ويؤكد موري أنّ "كثيرين من التونسيين يتفادون الإفصاح عن مرضهم حتى للمقربين منهم. وعدد منهم يعزف عن مراجعة طبيب خشية من نظرة الأخير إليه أو خوفاً من الكشف عن خصوصيته"، مضيفاً أنّه "على الرغم من تحسّن المؤشرات الصحية والوعي المجتمعي، فإنّ الإقبال على العلاج النفسي منخفض جداً، في حين تتزايد الأمراض وتتفاقم ويرتبط بعض منها بالواقع الاجتماعي الصعب الذي نعيشه". ويتابع أنّ "عدداً كبيراً من الشعب التونسي لا يملك كلفة العلاج النفسي، فيما آخرون يعدّون الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية أقلّ أهمية من الطبيب المتخصص في الأمراض البدنية، بالتالي فإنّ اللجوء إليه ليس أولويّة. ويأتي ذلك في حين أنّ الواقع الاجتماعي تسبّب في أمراض نفسية نتيجة الضغوطات وتغيّر نمط الحياة، لا سيّما في ظلّ أزمة كورونا".
من جهته، يؤكد المتخصص في علم النفس نعمان بوشريكة لـ"العربي الجديد" تسجيل "تزايد في الأمراض والاضطرابات النفسية عند التونسيين مع ارتفاع عدد المرضى"، مشيراً إلى "غياب الدراسات والأرقام الدقيقة في هذا المجال". ويقول بوشريكة إنّ "عوامل عدّة ساهمت في زيادة الأمراض النفسية، خصوصاً التوتّر المزمن والاكتئاب والأرق والقلق"، مشدّداً على "دور الأوضاع الاجتماعية في تزايد الأمراض النفسية لدى التونسيين على غرار تدهور المقدرة الشرائية وتدهور المنظومة التعليمية والانقطاع عن الدراسة والعزوف عن الزواج والبطالة وتبعات أزمة كورونا وآفاق الأزمة الصحية والوضع السياسي المتدهور، وغيرها من العوامل الضاغطة". ويلفت إلى أنّ "هذه الأوضاع الاجتماعية انعكست تزايداً في نسبة التدخين وتعاطي المخدرات والجريمة والعنف في المدرسة وفي المنزل".
ويؤكد بوشريكة أنّ "الإقبال على العلاج النفسي ما زال دون المأمول في البلاد، علماً أنّه ذو أهمية كبرى بهدف الإحاطة بالفرد ووقايته من مشكلات وصعوبات حياتية عدّة"، إلى جانب الحؤول دون تفاقم صحته النفسية. لكنّه يشير من جهة أخرى إلى "تزايد الإقبال على المتخصصين النفسيين بعد الثورة التونسية، بما يقارب ثلاث مرّات عدد المراجعين قبل عام 2011". ويتابع أنّ "وباء كورونا رفع كذلك نسب الإقبال بشكل كبير، خصوصاً من قبل أفراد الجسم الطبي الذين يتعرّضون إلى ضغوط نفسية كبير في مواجهتهم اليومية مع الفيروس".
في سياق متصل، كان الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية أنور الجراية قد أفاد بأنّ نحو 60 ألف تونسي مصابون بفصام الشخصية وفق إحصاءات تقديرية، موضحاً أنّ الفصام يُعَدّ من أخطر الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان. وقد أتى ذلك في خلال مداخلة ألقاها في إطار مؤتمر توعوي نظمته مدينة العلوم في تونس تحت عنوان "الفصام... من أجل معرفة الأفضل" في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي.