على الرغم من أنّ التونسيين يبحثون عن إرشادات نفسية تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي بهدف التعاطي مع الضغوط المرتبطة بتفشّي فيروس كورونا والحجر المنزلي وما إلى ذلك، فإنّ العلاج النفسي عموماً ما زال موضوعاً إشكالياً في تونس.
"لا تعلم عائلتي أنّني أقصد طبيباً نفسياً منذ ستة أشهر، حتى زوجتي لا علم لها بأنّني أتلقى علاجاً نفسياً. فالأمر مخجل وقد أُنعَت بالمجنون، لأنّ العقلية السائدة في مجتمعنا ما زالت تربط الطب النفسي بالعته". هذا ما يقوله عبد الكريم لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "تعرّضت وأحد العاملين معي في المصنع إلى حادثة شغل قبل سنة. إصابتي كانت بسيطة لكنّ سقوط أعمدة حديدية على رأس زميلي ومشهد الدم وخطورة الإصابة لم تُمحَ من ذهني طيلة ثلاثة أشهر. الصدمة أفقدتني حتى القدرة على الكلام لأكثر من يومَين". ويتابع "جرى عرضي على طبيب نفسي من قبل الشركة التي أعمل بها، لكنّ الأمر لم يكن بسيطاً، إذ لم يكن حالة مؤقتة بحسب ما يظنّ الناس. فأنا لم أستطع نسيان تلك الحادثة التي أودت بحياة زميلي. وأنا اليوم أواصل علاجي".
ويوضح عبد الكريم أنّه "منذ تلك الحادثة باتت تراودني كوابيس، وبتّ أخاف من سقوط شيء ما على رأسي، حتى في خلال سيري على الطريق. كلّ ضجيج صغير يشعرني بألم كبير في رأسي، لم أكن أشعر به من قبل. هذا كله دفعني إلى اللجوء للعلاج النفسي". ويشير إلى أنّه يقصد عيادة الطبيب النفسي "مرّة واحدة في الأسبوع من دون علم أيّ من زملائي في العمل وأيّ من أفراد عائلتي بذلك، ومن دون أن يعلموا بتأثير تلك الحادثة على حالتي النفسية".
على الرغم من ارتفاع نسبة قاصدي عيادات الطب النفسي في تونس، بحسب ما تفيد جهات مختصة، منها مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية، الذي قدّر الزيادة بنحو 15 في المائة، ما زالت زيارة الطبيب النفسي تُعَدّ أمراً مخجلاً لدى كثيرين. فالمجتمع التونسي بمعظمه يحصر زيارة الطبيب النفسي فقط بالمصابين بالجنون، الأمر الذي يجعل بعض المرضى يتلقّون علاجهم سرّاً، مخافة التعرّض إلى الوصم أو السخرية.
في السياق، يقول المتخصص النفسي عبد الرحمان بن محمد لـ"العربي الجديد"، إنّ "العلاج النفسي لا يقل أهمية عن العلاج الجسدي، خصوصاً أنّ سبب بعض الأمراض الجسدية يعود إلى الضغوط النفسية وما يعانيه الفرد في حياته اليومية أو ما يعانيه بعد تعرّضه لصدمات أو مواقف صعبة". ويتحدّث عن "ضغوط العمل وما تعانيه البلاد من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية تؤثّر على نفسية الأشخاص، بدليل ارتفاع نسبة الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب، أو ارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الأطفال والشباب". ويؤكد بن محمد أنّ "الاستشارات النفسية تساعد على حلّ إشكاليات حياتية يومية، وتساعد على تخطي ضغوط نفسية كثيرة، وتجنّب وقوع كوارث، خصوصاً وضع حدّ للحياة. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كثيرين يرفضون الطب النفسي ويعدّونه خاصاً بالعته ليس إلا، فيما يضطر أشخاص إلى إخفاء أمر علاجهم النفسي مخافة الوصم الاجتماعي".
ويشير بن محمد إلى أنّ "الأطباء والمتخصصين النفسيين بمعظمهم يفضّلون أن تكون مواعيد المرضى متباعدة في الوقت لتجنّب إمكانية أن يلتقي المرضى بعضهم بعضاً داخل قاعة الانتظار في العيادة. وبذلك يراعون رغبة المرضى بمعظمهم في التكتم عن علاجهم النفسي، حتى ولو كان بعضهم يعاني من مجرّد قلق عادي أو أزمة بسيطة لا تتطلب علاجاً مطوّلاً".
من جهة أخرى، يوضح أنّ "ارتفاع كلفة العلاج النفسي وحاجة حالات عدّة إلى جلسة واحدة في الأسبوع على أقل تقدير، يدفعان بعض المرضى إلى الاستغناء عن هذا العلاج، فيما يُعدّه آخرون مضيعة للوقت أو شكلاً من أشكال الترف فحسب".
يخبر سيف الدين (35 عاماً)، أنّه لجأ إلى طبيب نفسي قبل أربعة أشهر تقريباً، "على أثر وفاة والدي ووالدتي في الأسبوع نفسه. فقد سبّب لي ذلك أزمة نفسية جعلتني أشعر بالوحدة وصرت أتحوّل إلى إنسان انطوائي، لا سيّما أنّ لا إخوة لديّ وأنا غير متزوّج". يضيف "لأنّ البيت صار خالياً من عائلتي، صرت أفكّر في تغيير مكان إقامتي على الرغم من أنّه يحمل ذكريات الطفولة". ولا يخفي سيف الدين أنّه يتلقّى علاجه النفسي "من دون معرفة أيّ كان، وأصرّ على تحديد مواعيد في أوقات لا تجمعني بأيّ مريض آخر في العيادة نفسها، مخافة أن يراني شخص يعرفني، حتى لو كان ذلك الشخص يقصد الطبيب النفسي للعلاج مثلي". ويتابع أنّ "كثيرين هم الذين يرون في المريض النفسي مجرّد شخص فاقد عقله".
من جهته، يقول المتخصص في علم الاجتماع سامي اليحياوي لـ"العربي الجديد"، إنّ العلاج النفسي في المجتمعات العربية بصورة عامة ما زال غير مفهوم، "لذا يخفي المرضى بمعظمهم واقع أنّهم يقصدون عيادات الطب النفسي خوفاً من النظرة التي كرّستها الموروثات الاجتماعية والوصم الاجتماعي ونعتهم بالمجانين".