تقليد "الوزِيعة"... المال والأرزاق "بركة" الجميع في الجزائر

01 مارس 2024
تقليد الوزيعة متوارث منذ أجيال في الجزائر (بلال بن سالم/ فرانس برس)
+ الخط -

يكرّس تقليد "الوزيعة" في الجزائر التضامن والتعاون والمشاركة الجماعية في شراء ثور أو بقرة أو أكثر وذبحها وتوزيع اللحم بالعدل، ويرتبط بفترات معينة من أيام السنة ومناسبات محددة، كما ينظم لتلبية احتياجات تتطلبها المعيشة.

مع اقتراب شهر رمضان أو مناسبات دينية واجتماعية سنوية، تنظم لجان في قرى عدة في الجزائر، خصوصاً في الشرق، تقليد "الوزيعة" الذي يسمى "ثمشريط" باللغة الأمازيغية، ويشمل جمع المال من السكان لشراء ثور أو بقرة أو أكثر، وتوزيع اللحوم على الأسر الفقيرة والأيتام بغية مساعدتها، وإظهار التعاون بين العائلات. 
وفي قرى منطقة باتنة يمارس تقليد الوزيعة كعرف في العديد من المناسبات، إذ ينظم أعيان القرى يوماً واحداً لجمع المال بقيمة محددة من كل عائلة لشراء أغنام وأبقار، وأيضاً لتغطية مستحقات عائلات فقيرة لا تسمح ظروفها بأن تشارك في القيمة المطلوبة. وتقسّم لحوم الأغنام والأبقار إلى كميات متساوية، وتوضع في أكياس بحسب عدد سكان القرية، ثم توزعها لجنة القرية بعدل على العائلات، خاصة الفقيرة التي تستفيد بكمية مماثلة لغيرها رغم عدم مشاركتها في جمع المال، علماً أن لجنة القرية لا تكشف من لم يشارك في الوزيعة لحفظ كرامة العائلات.
يقول كريم شايب من ولاية خنشلة لـ" العربي الجديد": "يُنظم تقليد الوزيعة الاجتماعي في مناسبات دينية، منها شهر رمضان والأعياد واحتفالات المولد النبوي والزواج والختان واحتفالات أيام الحصاد وتوزيع المحاصيل والزكاة. ويعبّر التقليد عن فكرة حلول البركة في المال والأرزاق، إذ تنمّي قيم العدالة الاجتماعية بين السكان، وتحقيق التساوي فيما بينهم في الزاد والمؤونة والأكل، حتى لا يبيت أحد جائعاً".
في منتصف رمضان، تصبح "الوزيعة" الأكثر ممارسة في مختلف المناطق الجزائرية، خاصة القرى والأحياء النائية الفقيرة حيث تعمد العائلات إلى تخصيص يوم 15 رمضان لتزويد الفقراء باللحوم وتوزيعها على مختلف الأسر". 
وفيما يُعتبر موسم جني الزيتون في منطقة القبائل مثلاً مناسبة مهمة بالنسبة إلى سكان منطقة تيزي وزو، يستمر تقليد "الوزيعة" على مدى أيام حتى إنهاء الجني، وتنظم عائلات ولائم تشهد طهي طبق الكسكسي باللحم والخضراوات والبقول الجافة التي تخصص للفقراء في جو بهيج. في حين يفضّل كثيرون الاستفادة من نصيبهم من اللحوم الطازجة التي توزع عليهم في البيوت. 

ويشرح ممثل جمعية العلماء المسلمين في بوعنداس سطيف شرقي الجزائر، عبد الفتاح بوعجيل، لـ"العربي الجديد"، أن "تقليد الوزيعة يشكل فرصة للقاء والتواصل والاجتماع، خصوصاً حين يعود شباب القرية الذين يعملون في مناطق بعيدة لإحياء مناسبات معينة. وهو عملية اقتصادية تحقق منافع، فكمية اللحوم التي تُجمع بفضل المشاركة في شراء ثور أو أكثر تفوق بكثير المبلغ الذي قدمه مشارك واحد، كما تأخذ عائلات محتاجة حصصاً مجانية. وتشهد الوزيعة بيع قطع من الشاة والبقر المذبوح مثل الرأس (البوزلوف) والأقدام والكبد بالمزاد، وتستخدم العائدات لدعم الفقراء والمحتاجين. واللافت أن هناك تنافساً في الخير بين القرى، وأهل قرية بوعنداس تحديداً يسعون هذه المرة إلى أن تكون الوزيعة أكبر، وتمثل جزءاً كبيراً من قرى شمال ولاية سطيف".
وتتميز مدن وقرى ولاية تيزي وزو في منطقة القبائل الكبرى وسط الجزائر بمجموعة عادات توارثتها الأجيال وبتضامن سكانها. والمحرك الفعلي لهذه العادات هو الهيكل التنظيمي المتمثل في مجلس القرية أو "ثاجماعات" الذي يعمل استناداً إلى قوانين عرفية تنظم حياة السكان في القرية وخارجها. وتنظيم "الوزيعة" في هذه المنطقة من الأعراف التي توارثتها العائلات من الأجداد كسلوك اجتماعي يجسد معاني التآخي والتآزر. 

كي لا يبيت أحد جائعاً (رياض كرامدي/ فرانس برس)
كي لا يبيت أحد جائعاً (رياض قرمدي/ فرانس برس)

وتقول كريمة قاسي من منطقة بوغني لـ"العربي الجديد": "يهدف تنظيم يوم الوزيعة إلى تجسيد مبدأ المساواة بين أفراد القرية الواحدة، وانعدام الفارق بين الفقير والغني، وهو ينشر الفرحة في كل البيوت، ويعزّز التضامن بين الأفراد والعائلات في القرية الواحدة، ويقوي عادات التعاون بين السكان التي تحرّكها قيم اجتماعية متجذرة في المنطقة. وتبعث مناسبات الوزيعة على الفرح والطمأنينة لأن الأغنياء يبحثون عن الفقراء ويتذكرونهم في الظروف الصعبة، خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية واللحوم عشية حلول شهر رمضان. والوزيعة ترفع الغبن والحرج عن الفقراء".
وتعتبر "الوْزِيعة" من بين التقاليد العريقة التي تجسِّد مبدأ التضامن المتأصل لدى سكان العديد من المناطق الجزائرية. ويؤكد الباحث في التراث الأمازيغي الدكتور جمال آيت علي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "تقليد الوزيعة موجود في الجزائر منذ قرون، وارتبط بالمواسم الزراعية طوال السنة من حرث وزرع وحصاد، وعبّر عن التعاون في زراعة الأرض والمشاركة في المحاصيل والمؤونة، وأيضاً اللحوم التي توزع على الجميع في المنطقة الواحدة". 

يتابع: "أصبح تقليد الوزيعة احتفالاً أخذ صبغة شعبية كتقليد اجتماعي يعبّر عن التضامن، وينظم في مناسبات عدة خاصة الدينية بهدف إشاعة المساواة والتعاون والفرح في قلوب كل أفراد المجتمع الواحد. وتقليد الوزيعة من سمات المجتمع التي تنمي ممارسته الإحساس القوي بالانتماء والشعور بالارتباط، والانخراط في العمل الجماعي، ويشكل طريقة تصرف للأفراد في المناسبات تساعد في بناء الثقة وتعزيز الشعور بالمسؤولية الجماعية من أجل تحقيق الأمان في المجتمع، واستدامة قيم استقراره".
ويحافظ كثيرون في الجزائر على الموروث الثقافي لـ"الوزيعة"، خصوصاً في الأرياف ومناطق جبلية عدة لا تزال توصف بأنها "مجتمعات تقليدية تربطها ثقافة مشتركة، ويتمتع فيها الأفراد بإحساس قوي بالانتماء إلى المجتمع الواحد كمجتمع القرية، ويتشاركون المعتقدات والقيم والمعايير الواحدة. وتعكس مراسم تنظيم تقليد الوزيعة نوعاً من الاستعراض الاجتماعي في مناسبات عدة، إذ يتسابق الأغنياء لإعالة الفقراء، لأن السكان مقتنعون بأنه أحد وجوه الاستثمار المادي والرمزي ذات الأهمية الكبيرة، في حين يسمح تنظيمه في فضاء مفتوح بلمّ شمل الأفراد والشعور بالأخوة، والحفاظ على توازن المجتمع وسلامته.

المساهمون