على الرغم من شوقه لحضور حفل زفاف ابنة أخيه قبل نحو شهرين، إلا أن مصعب صوفان، الذي يتحدّر من قرية "بورين"، جنوبي مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية المحتلة، لم يتمكن من مغادرة منزله ليلة الحفل خشية استغلال المستوطنين هذه الفرصة والسيطرة عليه، يقول لـ"العربي الجديد": "أنا عم العروس وبمثابة والدها. مع ذلك، فقد فضلت البقاء في البيت. فإن غفلنا عنه ساعة ستكون فرصة على طبق من ذهب للسيطرة عليه من قبل المستوطنين المتطرفين القاطنين في مستوطنة يتسهار المقامة غصباً على أراضي القرية والقرى المجاورة".
موقع البيت الاستراتيجي جعله محط أطماع المستوطنين، إذ يتوسط جبل سلمان الفارسي في قرية بورين، جنوبي نابلس، فيما يبعد عنه أقرب منازل القرية ما لا يقل عن كيلومتر، ويفصله عن القرية الشارع الالتفافي الذي تمر فوقه آليات الاحتلال ومركبات المستوطنين، ما يجعل إمكانية الاستفراد بالبيت واردة.
حارسة الجبل
على مدى العقدين الماضيين، عُدّت صاحبة المنزل أم أيمن صوفان أيقونة بالنسبة للفلسطينيين. كانت تواجه المستوطنين وجهاً لوجه بعدما أصيب زوجها بجلطة خلال إحدى الهجمات التي شنها المستوطنون على المنزل، ولم يعد يقوى على التصدي لهم حتى فارق الحياة، وكان أبناؤها صغاراً. كثيراً ما تعرضت أم أيمن للأذى الجسدي، وحاول المستوطنون قتلها وحرق المنزل، لكنها كانت لهم بالمرصاد، حتى اكتسب الأبناء شجاعة والدتهم. لكن المرض نال من جسد أم أيمن حتى فارقت الحياة عام 2019.
يقول مصعب: "ليلة وارينا أمي الثرى، كانت الاحتفالات والألعاب النارية تنطلق من مستوطنة (يتسهار)، لكنهم اعتقدوا أن رحيلها سيجعل البيت لقمة سائغة، حتى وصلوا إلى قناعة بأننا لم نحد عن درب أمنا وأبينا، ومستعدون للدفاع عن البيت وعن الجبل بأرواحنا".
سجن لكنه حصن
البيت المكون من طابقين تحول الطابق الأرضي منه مع مرور الزمن إلى مخزن وجزيرة للأغنام تحيط به الأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة من كل الجهات، فيما نوافذه محصنة ويكاد ضوء الشمس ينفذ منها، ما حوله إلى سجن بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ويقول مصعب: "الناظر إلى جمالية وإطلالة البيت الذي تحيط به المساحات الخضراء الواسعة المزروعة بالزيتون واللوز، يكاد يحسدنا عليه، لكنه لو جرب أن يبيت ليلة واحدة فيه لولّى هارباً. الليل بالنسبة لنا كابوس، لا ننام فعلاً ونحاول أن نبقى أقوياء أمام الأطفال حتى لا نزرع فيهم الخوف".
تدرك عائلة صوفان المسؤولية الملقاة على عاتقها لحماية الجبل وليس البيت فقط. ويسأل مصعب: "هل تعرف ماذا يعني أن يسيطروا على البيت؟ يعني أن جبلاً يبدأ في بورين ويمتد إلى قرية مادما وينتهي بقرية عصيرة القبلية سيصبح في أيديهم. وخلال سنوات قليلة، سيعج بالكتل الاستيطانية. كما سيصادروا رزق مئات العائلات التي تعتاش من محصول الزيتون. وهناك أحواض مياه جوفية تحته لن نشرب منها كأس ماء".
هجمات انتقامية
على الرغم من أن الهجمات كثيرة، إلا أن هجوماً وقع قبل نحو عامين ما زال راسخاً في ذهن مصعب، ويقول: "رموا زجاجة على إحدى النوافذ مليئة بالدم الأحمر والسوائل ذات الرائحة الكريهة، ودخلت من بين الفتحات الضيقة وتناثرت الدماء في كل مكان. ومعنى الرسالة أن الموت ينتظرنا. بعدها رشقونا بالزجاجات الحارقة التي وقعت إحداها على أريكة وسط البيت فاحترقت، وأشعلوا النار في السيارة وقتلوا حماراً".
ومنذ حادثة حرق المستوطنين ثلاثة من أبناء عائلة دوابشة في يوليو/ تموز 2015 في قرية دوما، جنوب نابلس، تعيش عائلة صوفان مخاوف من تكرارها معهم، ويقول مصعب: "إنهم لا يتوانون عن قتلنا وحرقنا أحياء، لكننا لن نستسلم. لذلك نقسم مناوبة المراقبة الليلية والنهارية بيني وبين إخوتي، ولا يُسمح لنا بأن نغفل نهائياً".
هجمات بعيون الأطفال
قبل نحو شهر، هاجم نحو أربعين مستوطناً منزل عائلة صوفان بشراسة وحاصروه من جميع الجهات بحماية جيش الاحتلال.
وتقول الطفلة سجى صوفان: "كانوا كالوحوش، صياح وشتم وطرق بكل قوة على الأبواب والشبابيك. كانت معهم كلاب لا تتوقف عن النباح. خفت على أشقائي الصغار، احتضنتهم وصرت أنادي يا رب، يا الله".
وكثيراً ما صادفت الطفلة سجى وهي في طريقها إلى المدرسة مستوطنين، وتقول: "أنا لا أخاف منهم، وهم يعرفون هذا، فلا يجرؤون على اللحاق بي، لكن أشقائي الصغار يلتصقون بي ويبكون أحياناً، وأنا أحاول طمأنتهم".
يناشد مصعب صوفان الجهات الفلسطينية الرسمية تحقيق مطالبهم بتوفير أبسط سبل العيش الآمن، ويقول: "نحن في حاجة لتسوية الطريق خارج المنزل، وبناء سور استنادي، ليتمكن أطفالنا من اللعب بحرية في الساحة الخارجية. نسمع وعوداً كثيرة لكن لا يتحقق منها إلا اليسير جداً".
وتعيش بلدات وقرى جنوب مدينة نابلس معركة حقيقية بصورة يومية ضد جماعات المستوطنين المتطرفة، وتحديداً "شبيبة التلال"، التي تنفذ هجمات دموية ضد الفلسطينيين وبيوتهم وحقولهم الزراعية. وتحيط خمس مستوطنات وعشرات البؤر الاستيطانية التي يقطنها نحو عشرين ألف مستوطن بالتجمعات السكانية الفلسطينية، كالمعصم في اليد، إذ يسيطر المستوطنون على قمم الجبال الفلسطينية هناك. فمستوطنة "براخا"، ومعناها البركة، مقامة على جبل يقع شمال بورين وصولاً إلى قرية تل غرباً، وأخيراً أقيمت ثلاث بؤر استيطانية في المكان.
وعلى الجبل المقابل تمتد مستوطنة "يتسهار" على مساحة آلاف الدونمات، وأقيمت أيضاً في جوارها أربع بؤر استيطانية، فيما تقع مستوطنة "إيتمار" في قلب السهل الرابط بين نابلس وقرى عورتا وأودلا وأطراف بلدة حوارة، وصولاً إلى بلدة بيت فوريك شرقاً.