لم تهدأ أوجاع أهالي الضحايا الذين سقطوا في انفجار مرفأ بيروت، وإن كان يشاركهم معظم اللبنانيين في وجعهم هذا. إلا أن هؤلاء خسروا أحبابهم وما زالوا يطالبون بحقهم في محاسبة المسؤولين عن "جريمة العصر".
مرّ عامان على فاجعة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب 2020. وفي وقت تعلو فيه التحذيرات من انهيارٍات جديدة في أهراءات المرفأ، تعود الذاكرة إلى ذلك اليوم المشؤوم، حين انفجرت بيروت بأهلها وسكانها، ما أودى بحياة أزواجٍ وأطفال وأحبّاء وأصدقاء. منهم من وجدت جثّته، ومنهم من عثر على أشلائه بعد جهدٍ جهيد، ومنهم من فُقد أيّ أثرٍ له في الأيام والأسابيع الأولى.
"سواء بعد عامين أو عشر سنوات، دمعتنا لن تجفّ. نبكي ليل نهار علّ الدموع تخفّف من وطأة مأساتنا"، تقول منى جاويش والدة الضحية روان ميستو لـ "العربي الجديد"، مضيفة: "كلّ جرح يهون ويُشفى المرء منه، لكنّ جرح الفراق يكبر ولا يصغر. ومع انقضاء كلّ يوم يزداد قهري ووجعي".
كان يفترض أن تحتفل روان (20 عاماً) بعيد ميلادها في 28 يوليو/ تموز الماضي. تقول والدتها: "عيدها أكبر فرحة لنا، لكنّه بات اليوم أكبر غصّةٍ وأعظم جرحٍ في قلبي. أنظر إلى جانبي فلا أجدها. خطفوا ابنتي مني هي التي لم تكن تشكو أيّ مرضٍ أو مشاكل صحية. ودّعتني وقصدت عملها وكان ذلك الوداع الأخير". وتأسف لانقضاء عامين على الانفجار من دون معرفة أيّ شيء عن الحقيقة، أو أن تتّضح هوية المجرمين الذين خزّنوا نترات الأمونيوم وفجّروا العاصمة وحرمونا شبابنا وأطفالنا وأحبّاءنا". تضيف: "حتى اليوم لا أصدّق أنّها رحلت. كانت مفعمة بالحياة وأصرّت على متابعة دراستها والعمل بالتوازي في أحد المطاعم. كانت تحلم بالتخصّص في مجال الإخراج، وقادها شغفها بالتصوير إلى العمل كعارضة أزياء، وشاركت في أعمال بعض الفنانين وفي عددٍ من الإعلانات".
تتابع الوالدة: "كانت روان محبوبة من الجميع وجذّابة. كانت عزيزة النفس، كريمة الأخلاق، تحبّ الحياة والعطاء. ولم يبقَ لي سوى ابني (16 عاماً) وابنتي الكبرى التي تكبر روان بسنة، وكانت ترافقها معظم الأحيان وكأنهما توأم". ومنى جاويش التي كافحت لتربية أولادها الثلاثة وتأمين لقمة عيشهم، لا سيّما وأنّها مطلقة منذ سنواتٍ عديدة، تختصر عذاباتها وقسوة الحياة قائلةً: "ندبّر أنفسنا بأنفسنا كي نتمكّن من تسديد بدل إيجار المنزل والأقساط الدراسية وغيرها من المصاريف. كنتُ أعمل في التصوير الصحافي ثمّ انتقلتُ للعمل في الطهي، غير أنّني لم أعد أقوى على العمل بعد حادثة الانفجار. تدهورت صحتي وأُصبت بالتهاباتٍ في شرايين اليدين والقدمين".
"مبروك... وجدتَ أخاك جثّة كاملة"
لا يريد شادي دوغان، شقيق محمد نور دوغان، من الحياة شيئاً سوى تحقيق العدالة ومحاسبة المنظومة الفاسدة. يقول: "ألا يحقّ لنا كأهالي شهداء ويحقّ للشعب اللبناني، لأول مرة، معرفة مَن كان خلف انفجار مرفأ بيروت. الوجع كبير جداً، فقد خسرتُ أهمّ شخص... خسرتُ أخاً وسنداً وصديقاً. تدمّرتُ بعد استشهاد محمد نور، دمّرتني الحياة، فقد تركني الغالي ورحل". يضيف: "وجعي وجع الشعب اللبناني ككلّ، والمطلوب اليوم التخلّي عن الطائفيّة والمذهبيّة المستشرية في وطننا، والنزول إلى الشارع لسحب المتورّطين من منازلهم وإنزال أشدّ العقوبة بحقّهم".
شادي الذي بقي وحيد عائلته، إلى جانب شقيقتين، يروي بغصّةٍ حرقة قلوبهم، ويقول: "خسرنا جسر بيتنا وجبلنا. فمحمد كان يعمل لدى إحدى الشركات داخل المرفأ، ويومها قصد عمله قبل عشر دقائق من دوامه. كان بعيداً عن الانفجار نحو 400 إلى 500 متر، واستشهد بسيارة العمل". ويتابع: "بعد ثلاث ساعات عثرنا عليه جثّة في مستشفى المقاصد الخيرية الإسلاميّة (بيروت). لقد كان يوماً مشؤوماً لا يفارق مخيّلتنا، ما زلنا عالقين هناك وكأنّنا في أول يومٍ للانفجار".
الشقيق الذي يعمل بدوره في المرفأ، والذي كان يعتبره "أكثر الأماكن أمناً"، يسرد كيف غادر يومها عمله قبل أربع ساعاتٍ تقريباً من وقوع الانفجار. يستعيد اتصاله الصباحي الأخير مع شقيقه محمد، ويقول: "كنّا نخطّط لقضاء يوم الخميس معاً، غير أنّه خُطف منّا في ذلك الثلاثاء الأسود، ولم يكن قد تجاوز 46 عاماً تاركاً خلفه ابنتين، توأم، بعمر 12 سنة".
بصعوبة، يلفظ شادي ما سمعه يومها. "انهالت عليّ عبارات المباركة والحمد والشكر فقط لأنّني وجدتُ جثّة شقيقي كاملة. فانظروا إلى أين وصلنا في هذا البلد؟ الله لا يسامحهم، وكما دمّرونا ودمّروا عائلتنا، أتمنّى أن يتدمّر كلّ سياسي له يد في الانفجار. نريد محاسبته سواء كان موظّفاً كبيراً أم صغيراً. نريد العدالة على الأرض وسنأخذ كذلك عدالة السماء منهم".
ألم الفراق
وتقول رندة والدة محمد دمج إنه "يجب تحقيق العدالة ومحاسبة كلّ متورّط ومسؤول عن انفجار العصر، وكلّ متواطئ تستّر على وجود نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، وكلّ مَن يواصل حمايتهم والتغطية عليهم"، مطالبةً "بحماية الأهراءات وتخليد ذكرى الضحايا عبر نصبٍ تذكاريّ". وتأمل "ألا يذوق أيّ فردٍ ما نذوقه لغاية اليوم من ألم الفراق. خسرتُ ابني محمد ولم يبقَ لي سوى شقيقه الأصغر. محمد الخرّيج الجامعي والذي كان سيحتفي بعيد ميلاده الرابع والعشرين في الثامن من سبتمبر/ أيلول 2020، أي بعد قرابة شهرٍ على الانفجار، ولم يجد فرصة عمل في اختصاصه في الهندسة، فكان أن دبّر له صديقه عملاً في المرفأ كمراقب للشاحنات".
وتقول الوالدة: "يوم الانفجار كان من المفترض أن يبدأ دوامه قرابة الساعة الخامسة عصراً، لكنّهم اتصلوا به عند الساعة الرابعة للحضور بشكلٍ عاجلٍ، فذهب فوراً، دخل المرفأ من جهة الحريق، فكان أن لقي حتفه وهو لا يزال داخل سيارته. وُجد محمد تحت أنقاض عنبرٍ كاملٍ".
أم محمد التي تستذكر كيف عاد ابنها يومها إلى عمله بعد إجازة استمرت ثلاثة أيام، وعطفاً على الاتصال العاجل، تقول إنّه أخبرها أنّ مديره اتصل به كي يلتحق بالعمل، علماً أنّه كان ينوي ترك عمله في المرفأ، لأنّ راتبه بالكاد يكفيه. وتختم الوالدة حديثها قائلة: "لمستُ يومها إحساسه بالخوف والقلق، فوعدتُه أن أغلّف له كتاب قرآنٍ صغيرا يرافقه أينما ذهب. وما لبثتُ أن أنجزته، وأرسلتُ له الصورة، حتّى أجاب بإشارتَي إعجابٍ وفرحٍ. وكانت تلك رسائله الأخيرة".
لن ننسى ولن نهدأ
أمّا جورج بزجيان، والد جيسيكا، الممرّضة التي قضت عند دخولها إلى عملها في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي (الروم)، فيقول: "مطلبنا واحد وواضح جداً، العدالة، الحقيقة والمحاسبة، أضف إلى ضرورة الإفراج عن القضاء اللبناني وعدم التدخل السياسي بأيّ تحقيق في قضية المرفأ، كما وقف الخزعبلات القانونية التي تتعمّد من خلالها المنظومة السياسية، عرقلة التحقيق وطمس الحقيقة بكلّ ما أوتيت من جهدٍ".
ويؤكّد الوالد أنّه "لو بعد مائتَي سنة لن ننسى ضحايانا وشهداءنا، ولن نهدأ، وسنبقى نطالب بالحقيقة والعدالة والمحاسبة. فابنتي جيسيكا استشهدت وهي بعمر 22 عاماً. كانت قد أنهت تخصّصها في جامعة البلمند، قبل أن تبدأ عملها في المستشفى، حيث كانت تصل قبل دوامها، كونها شغوفة بالعطاء وخدمة الناس. وفي ذلك اليوم المشؤوم، كان دوامها عند الساعة السابعة مساءً، لكنّها وصلت إلى عملها عند السادسة مساءً، فكان أن ذهبت ضحية ذلك الانفجار الخبيث".
جورج بزجيان، وهو أب لشابّتين، يروي كيف هرع حينها إلى المستشفى، فوصل بعد ثلث ساعة وبعد مشقّةٍ صعبة، ليجد ابنته الصغيرة، جيسيكا، مطروحةً عند باب الطوارئ، حيث تجمّع زملاؤها لإسعافها، متابعاً: "غير أنّها كانت في غيبوبةٍ، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على مرأى من عينيّ".
بوجعٍ، يسرد الوالد المفجوع، "كيف كانت جيسيكا تدّخر المال، لمتابعة الماجستير في جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، لكن شاء القدر للأسف، أن نصرف مدّخراتها على دفنها". ويختصر وصفه لابنته، بالقول: "كانت شابّة ذكيّة ونشيطة، كانت عجقة المنزل، نبضه وروحه، أمّا اليوم فحياتنا مختلفة تماماً من دونها".
كان الموت بانتظارها
من جهتها، تقول ماريانا فودوليان: "شقيقتي غايا قُتلت على يد دولتها الكريمة، وفي قلب منزلنا في منطقة الأشرفية (بيروت). فابنة الـ 29 عاماً، ثابرت على التخصّص الجامعي ونيل درجة الماجستير بعد خمس سنواتٍ قضتها في ميلانو (إيطاليا) قبل أن تقرّر العودة إلى لبنان عام 2016، لتكون بالقرب من عائلتها وأصدقائها". تضيف: "عشقت غايا وطنها، وكانت دائماً تردّد: ما في أحلى من لبنان، وما في مثل سهراته وضحكات أهله وأجوائه ونمط حياته، غير أنّه لم يُكتب لغايا الحياة في لبنان".
فودوليان التي لا تفارق الشارع، حالها حال أهالي الضحايا جميعهم، تقول: "مضى عامان ولم يُحاسب أيّ أحد من المسؤولين الكبار. كلّ ما نشهده محاولات لعرقلة التحقيق وتضييع الوقت وتفصيل القوانين على قياسهم، مراهنين أنّنا سنتعب ونملّ وننسى أحبّاءنا، وبالتالي نتوقّف عن المطالبة بحقوقهم من منطلق أنّ العدالة مستحيلة في لبنان. إنّه سلاحهم الوحيد، لكنّنا نجدّد وعدنا بأنّنا لن نتوقّف عن التحرك والمطالبة بالحقيقة وباستقلاليّة القضاء ومحاسبة المجرمين والمطلوبين للعدالة بدلاً من انتخابهم نواباً، ومن ثمّ أعضاءً في لجنة الإدارة والعدل النيابية. كما نعوّل على النواب الشرفاء، المؤمنين بالتغيير، والذين يتلمّسون وجعنا وقضيتنا، ويعملون لمصلحة الشعب اللبناني". وتكشف أنّهم ذاهبون نحو التصعيد، مشددة على أنّ "ثقافة الإفلات من العقاب ستؤدّي إلى تكرار انفجاراتٍ مماثلة، ولأكثر من مرة. آن الأوان للانعتاق من الطائفية والمحسوبيات الضيقة وكأنّه مطلوبٌ من القاضي أن يوازن بين الطوائف عند المحاسبة".
حياتنا انقلبت رأساً على عقب
جنان فرنسيس، وهي زوجة جوزيف مرعي، تختزل معاناة الرابع من أغسطس/ آب قائلة: "حياتنا انقلبت رأساً على عقب، وباتت صعبة بشكلٍ لا يوصف. ذلك اليوم تحوّل إلى جرح دائم ووجع يلازم يوميّاتنا وتفاصيل حياتنا. الذكرى الأليمة ترافقنا بكلّ لحظة، فقدتُ ركن البيت وأساسه. غادرنا جوزيف تاركاً خلفه أربع بنات، أكبرهم بعمر 18 سنة، وأصغرهم بعمر سبع سنوات".
تُعدّد الزوجة صفات جوزيف وهي تبكي فقدانه، قائلةً: "كان جوزيف ذلك الرجل الشهم المحبّ والرفيق والصديق المخلص المندفع للمساعدة والعاشق لعمله. جمع كلّ الصفات الجميلة". جوزيف الذي عمل في المرفأ طوال 23 عاماً، تلفت جنان إلى أنّه قضى أثناء دوامه "لقد ودّعنا وغادر، ولكن لم تُكتب له طريق العودة. فبقيتُ وبناتي الأربع وحيدين، يتآكلنا الألم وتنهشنا الظروف العصيبة ما اضطرّني للطهي وإعداد المعجّنات والمأكولات وبيعها كي أتمكّن من الاستمرار. وتوقّف راتب زوجي يوم الانفجار واكتفوا بمنحنا تعويض نهاية خدمة فحسب".
وتؤكّد الزوجة أنّهم لم ينسوا الذكرى كي يتذكّروها، مشيرة إلى أنّه "بعد عامين على الانفجار، لا نطالب سوى بالعدالة، والتي تُعدّ من أبسط حقوقنا وحقّ أرواح الضحايا الأبرياء. قُتلوا أثناء عملهم وهم يلهثون خلف لقمة عيشهم وعائلاتهم. أليس من الجائر أن يموت أحبّاؤنا ويلقوا حتفهم بأبشع الطرق؟".