عام مضى على انتفاضة السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول في لبنان. عام حمل انهياراً اقتصادياً ومعيشياً زاد من إفقار اللبنانيين ومعهم المقيمون من لاجئين فلسطينيين وسوريين وغيرهم. مع ذلك، يظل الحدث المدوي الذي لم تستفق العاصمة اللبنانية بيروت من هول صدمته بعد، هو انفجار المرفأ، وما نجم عنه من خسائر بشرية ممثلة بأكثر 210 قتلى ومفقودين، مع تهجير نحو 300 ألف مواطن من منازلهم، ودمار نحو 50 ألف وحدة سكنية ومنشأة ومحل، بأكلاف تقدر بما يتجاوز خمسة مليارات دولار أميركي، عدا عن الخسائر غير المباشرة التي تجاوزت محيط الانفجار.
حتى اللحظة، لم تخرج التحقيقات بما يبلسم جراح الأهالي الذي يصرون على معرفة المسؤولين عن الكارثة من سياسيين في مراكز القرار أُبلغوا بوجود أطنان من نترات الأمونيوم ولم يفعلوا شيئاً، وإداريين اكتفوا بالإبلاغ عن مخزون العنبر رقم 12 وبرّأوا أنفسهم عن خطورة الوضع على المرفأ كمنشأة مدنية وعلى أحياء المدينة، ما أدى إلى وقوع رابع أقوى انفجار غير نووي في العالم، ما قاد إلى خسارة الناس أبناءهم وأزواجهم وزوجاتهم وأقاربهم... وبين 17 أكتوبر 2019 واليوم، تتصاعد الأزمة السياسية التي لم تطح فقط حكومتين، بل أطاحت المبادرة الفرنسية، ومعها ما تبقى من مصداقية الطبقة السياسية التي قادت البلاد إلى خراب ليس من بعده خراب.
مسيرة الانتفاضة ومصيرها
نبدأ من اللحظة الراهنة ونحن نحاول مقاربة مسار ومسيرة انتفاضة 17 أكتوبر. آخر تظاهرة خرجت كانت من أمام ثكنة الحلو في شارع مار الياس نحو المصرف المركزي مروراً بشارع الحمراء في بيروت. كان عدد المشاركين لا يتعدى العشرات ولا يصل في أفضل التقديرات إلى مائة، علماً أنّ الإحصاء الدقيق تحدث عن 65 شاباً وشابة لا غير. كان هؤلاء الذين يرفعون أصواتهم داعين المواطنين الذين يقفون على الشرفات أو يتفرجون عليهم في الشارع، للمشاركة معهم في المسيرة التي لم تجذب أحداً رغم أنّ المسافة بين نقطة المنطلق ومحطة الوصول ليست قصيرة. المهم أنّ مسيرة من هذا النوع وبهذا الهزال تتطلب الدرس أكثر من أيّ أمر آخر، فماذا حدث في غضون العام حتى الوصول إلى هذا العدد المتواضع في عداد المشاركين في التحرك؟
لم يأتِ هذا التراجع من فراغ، فقد سبقه أكثر من مؤشر على العجز عن حشد أعداد مقبولة في الساحات والميادين العامة، سواء في الساحة المركزية أو ساحات مراكز المحافظات. حتى إنّ عدداً من الذين يتابعون اجتماعات مجموعات الانتفاضة أشاروا قبل نحو شهر ونصف إلى أنّ اجتماعاً عقد لمجموعات الانتفاضة حضره ممثلون عن نحو مئتي مجموعة تقرر خلاله تنظيم اعتصامين أحدهما في ساحة الشهداء نفسها لم يستطع أن يحشد أكثر من 150 شخصاً، أي أقل من عدد المجتمعين أنفسهم. هذا غيض من فيض فقط. وفي المعطيات التي تجمع بالقلم على الورق يتبين أنّ هناك نحو 500 مجموعة وتنسيقية مناطقية ومركزية تنتشر على عموم المناطق اللبنانية، لكنّ فاعليتها تتضاءل إلى حدّ غير مسبوق، مع أسماء تصدر ثم لا تلبث أن تغيب، ما دفع البعض إلى نعي الانتفاضة وخروجها من المعادلات السياسية التي عادت إلى سيرتها الأولى، بما هي صراعات بين أجنحة وقوى السلطة، والتي يتربع على رأسها كما هو معلوم ليس رئيس الجمهورية ميشال عون، أو رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو رئيس الحكومة حسان دياب أو كائناً من يكون، بل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، من دون سواه، حتى إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارته الثانية إلى لبنان ومؤتمره الصحافي التقريعي الشهير للطبقة السياسية، لم يأتِ على ذكر الانتفاضة كقوة ضغط على هذه الطبقة التي وصمها بخيانة الأمانة الوطنية وليست مبادرته فقط. إذاً، عادت الحياة السياسية إلى دورتها العادية بما هي صراعات ومناكفات بين القادة ممثلي الطوائف وممثلي المرجعيات الإقليمية والدولية.
عندما سُئل الرئيس ميشال عون إلى أين يتجه لبنان؟ أجاب: "إلى جهنم"
خلال الأشهر الماضية، صدر في وسائل التواصل الاجتماعي كثير من البرامج السياسية والاجتماعية عن مجموعات شاركت في الانتفاضة، متشابهة في المضمون رغم تشديد كلّ منها على ما رأته الأصل. ما يثير السخرية في هذه الطروحات أنّ بعضها كان يتصرف على أساس أنّ السلطة القائمة انتهت، وأنّ على المجموعات المسارعة فقط لتعيين رؤساء الحكومات وتوزيع الحقائب الوزارية على المتخصصين من أعضاء المجموعات وغيرها من المسؤوليات. وفي باب السخرية أيضاً، فإنّ مجموعة نسوية في التحرك وضعت قائمة بأسماء وزيرات بلغ عددهن 30 وزيرة بالتمام والكامل. كلّ هذه البهلوانيات لم تستطع أن تحرك المياه الراكدة، حتى في الأوساط الشبابية التي كانت نبض وعصب الانتفاضة على اختلاف منابتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والمناطقية. وهكذا، ضاعت مقترحات الأوراق في خضم مجريات الأمور من دون أن تترك حداً أدنى من المضاعفات، بين هذه الأوساط التي نجحت قبل عام في هزّ عرش وسُدّة سلطة هذه الطبقة السياسية وأحزابها الطائفية، ودفعت ببعض قوى السلطة للتحرك لقمعها، بينما تولت القوى الميليشاوية ميدانياً النزول بقدرتها الكاملة وشعاراتها واستعمال سلاحها الأمضى، وهو التهديد بإشعال فتيل الحرب الأهلية تارة بين الشياح وعين الرمانة وطوراً بين الخندق الغميق والأشرفية.
القضية الاجتماعية والمعيشية باتت الآن على رأس هموم اللبنانيين بعدما انقرضت الطبقة الوسطى. وهي طبقة كانت تمثل حيوية المجتمع اللبناني ومصدر تألقه، وكانت تقدر بأكثر من نصف المجتمع. فبالإضافة إلى ما كشفته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) في تقريرها عن نحو 83 في المائة من اللبنانيين على خط الفقر أو دونه (55 في المائة فقراء و28 في المائة دون خط الفقر) بلغ سعر صرف الدولار الأميركي عتبة عشرة الآف ليرة لبنانية، واستشرت البطالة بين العاملين والموظفين والحرفيين، وبالطبع الشرائح الشبابية التي تخرجت في العامين الأخيرين من الجامعات والمعاهد التقنية لتكتمل الصورة المرعبة. وعليه، يبدو الآن أنّ اللبنانيين يعيشون موسم الهجرة الشرعية والسرية، ما يذكّر بهجراتهم السابقة خلال المجاعة الكبرى عام 1916 التي أبادت ثلث سكان متصرفية جبل لبنان، وكذلك في غضون سنوات الحرب الأهلية (1975- 1990).
عود على بدء
يمكن قول الكثير في صورة الوضع الراهن كما هي عليه، وهي صورة مرشحة لمزيد من السواد، إذ في غضون شهرين من الآن ستبدأ عملية إلغاء الدعم الحكومي عن المحروقات أولاً، وعن الدواء ثانياً، وعن القمح ثالثاً. وهو ما يعني أنّ اللبنانيين سيواجهون خريفاً وشتاءً قاسيين لم يعرفوا مثيلاً لهما. صحيح أنّ المقتدرين من سكان الجبال خزنوا مازوتاً لوسائل التدفئة الشتوية في بيوتهم، لكن المولّدات الكهربائية الخاصة (الاشتراك في الأحياء) في المدن والأرياف التي بات يعتمد اللبنانيون عليها في أمورهم اليومية مرشحة لرفع سعر استهلاك الـ 5 أمبيرات إلى 600 ألف ليرة (400 دولار بالسعر الرسمي، علماً أنّ الحدّ الأدنى للأجور هو 675 ألف ليرة، أي 450 دولاراً). وبات الناس عاجزين عن دفع أقساط مدارس أبنائهم وثمن الكتب والدفاتر، أو شراء ملابس شتوية لهم، فيما أزمة البطالة تطاول فئات لم يكن يخطر ببال أحد أن تطاولها كالأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات، فضلاً عن رجال الأعمال والمؤهلين في العلوم الحديثة (كومبيوتر وإدارة أعمال ومعلوماتية وبرمجة) ومعلمي المدارس التي أقفلت أبوابها والجامعات التي تفتقد طلابها وغيرهم.
من الواتساب إلى جهنم
وسط هذا المناخ يصعد سؤال هو الآتي: إذا كانت ضريبة الواتساب بقيمة 5 دولارات أميركية قد أشعلت الانتفاضة الأولى في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فماذا عسى أن تطلق كلّ هذه الكوارث الواقعة والمتوقعة على الصعيد الاجتماعي والمعيشي والمتدافعة في الوقت نفسه، عدا عن تفشي كورونا وما يخلفه من مضاعفات على الاجتماع اللبناني المتخلخل أصلاً؟
من عاين الانتفاضة في مراحلها الأولى يدرك أنّ فئات وشرائح اجتماعية كثيرة شاركت فيها، حتى إنّ ذكرى عيد الاستقلال، في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أقامت الانتفاضة فيها احتفالاً جماهيرياً في ساحة الشهداء حضره عشرات الألوف، وشاركت فيه بمسيرات معظم القطاعات والمهن بمن فيهم الصناعيون والحرفيون وربات المنازل والطيارون والأطباء والمهندسون والتقنيون والمزارعون والعمال وقدامى الجنود والقوى الأمنية. لكنّ هؤلاء الذين شاركوا على امتداد أشهر انكفأوا عن الحضور إلى ساحات الانتفاضة التي تعجز هذه الأيام عن استعادة بعضهم القليل، نتيجة أخطاء المنتفضين من جهة، وقمع السلطة، وعدم وجود قيادة وبرنامج واضح محدد المطالب من جهة ثانية. أكثر من ذلك، فهناك التباس في موقع السلطة الفعلية في لبنان، فالحكومة المسؤولة التي يفترض بها تولي الإدارة التنفيذية للبلاد تدار عملياً من وراء ستار أسماء النافذين الذين لا يتجاوز عددهم سبعة إلى ثمانية أسماء مع اختلاف في مدى ومصدر قوة كلّ منهم. وهكذا كانت الانتفاضة تتماوج تبعاً لانتماءات المشاركين فيها، وما تحوير شعار "كلّن يعني كلّن (نقصدهم كلّ الزعماء)" إلى "كلّن يعني كلّن، وفلان (المقصود أحد الزعماء السياسيين أو الطائفيين) مش (ليس) منهم" ليس سوى مثال، لذلك كانت كلّ قوة سياسية في السلطة تتبرأ من مسؤوليتها عن الكارثة التي تحيق باللبنانيين ومصيرهم القاتم.
فالسلطة الإجرائية عادة في كلّ الدول تناط برئيس مجلس الوزراء والوزراء، والتشريعية بمجلس النواب، والقضائية بالجهاز القضائي وهكذا. أما في لبنان، وكما هو معروف، فهناك غرف أو ملاجئ سرية تدار منها البلاد. ولا ينفع الإنكار في تعمية الوقائع المعروفة. من يعرف المواقع التي توجهت نحوها التظاهرات عندما كانت عامرة يدرك مدى التخبط في تحديد الجهة المسؤولة عن هذا المصير، فقد اتجهت التحركات نحو مقر السراي الحكومي ومجلس النواب والقصر الجمهوري وجمعية المصارف والمصرف المركزي وشركة الكهرباء ووزارات: الداخلية والمالية والطاقة وغيرها، ثم منازل المسؤولين والنواب وهكذا. أي أنّ التظاهرات لم تحدد بالضبط طبيعة ومكان وموقع السلطة وتكثف الضغط عليه. وهكذا "ضاعت الطاسة" انطلاقاً من تعدد مشارب وانتماءات المشاركين في صخب الشارع. وما عزّز ذلك غياب القيادة التي تدير الأمور من ألفها إلى يائها بدءاً من دراسة الوضع السياسي والضرورات الملحة للتأثير فيه، إلى توجيه الدعوات للتحرك في الأحياء والحارات، والحصول على ترخيص من وزارة الداخلية، وتحديد الشعارات والهتافات التي يتوجب رفعها وخط السير للمتظاهرين وتأمين اللوجستيات المطلوبة (لافتات ومكبرات صوت وغيرها) .
التظاهرات لم تحدد بالضبط طبيعة ومكان وموقع السلطة وتكثف الضغط عليه
عندما سُئل رئيس الجمهورية ميشال عون إلى أين يتجه لبنان؟ أجاب: "إلى جهنم". أثارت الكلمة في حينه مواقع التواصل الاجتماعي وعاصفة من الاحتجاجات. يبدو أنّ اللبنانيين الآن في صميم "جهنم وبئس المصير" بالنظر إلى العجز عن صياغة أطراف السلطة ولو حلولاً متدرجة لعلاج الوضع. والأقسى من ذلك كلّه هو وضع الانتفاضة التي يتوجب على الأطراف المسؤولة منها، أي غير التابعة لقوى طائفية ولأجهزة السلطة والسفارات أن تقرأ تجربتها ملياً لتبيان مواضع أقدامها، والإفادة من الأخطاء وإدراك المخاطر التي تتهدد البلاد والناس، وهي أخطار أقل ما يقال فيها إنّها تضع، من دون مبالغة، الكيان على شفا الزوال، والشعب على حافة التفكك والمجاعة.