انتخابات ألمانيا... البيئة والفقر والهجرة أبرز القضايا

26 سبتمبر 2021
اللافتات الانتخابية تنتشر في كلّ انحاء البلاد (ينغ تانغ/ Getty)
+ الخط -

 

قضايا كثيرة تشغل الألمان وقد ظهرت بشكل أوضح قبيل الانتخابات البرلمانية اليوم، في حين حاول المرشّحون الارتكاز عليها في حملاتهم. ولعلّ أبرزها تختلف ما بين البيئة والرفاهية ومكافحة الفقر والهجرة.

تنطلق اليوم، الأحد 26 سبتمبر/ أيلول، الانتخابات الفدرالية لعام 2021 في ألمانيا التي تتيح للمواطنين اختيار أعضاء جدد للبرلمان الاتحادي (بوندستاغ). والتركيز اليوم ليس فقط على منصب المستشار ومن الذي سوف يتصدّر المشهد، بل كذلك على القضايا الأساسية التي تشغل الناخب الألماني وتؤثّر عليه اجتماعياً وغير ذلك. فتحاول "العربي الجديد" عرض ما أظهرته النقاشات الدائرة في المجتمع الألماني الذي يضمّ نحو 83 مليون نسمة، وكذلك استطلاعات الرأي التي تتناول هواجس هذا المجتمع وانتظاراته وتوقعاته المستقبلية. وفي ما قد يمثّل مفاجأة، فإنّ قضية الهجرة التي قد يستغلها أطراف لأغراض معيّنة، ليست معزولة عن الحديث عن حاجة البلد المستقبلية إلى الأيدي العاملة بعد تراجع ملحوظ في نسبة الولادات واتّجاه البلد نحو الشيخوخة.

جاءت فيضانات الصيف المنصرم التي طاولت مناطق غرب البلد وأسفرت عن أضرار مادية كبيرة ووفاة 173 شخصاً، لتؤكّد مجدداً مكانة وأهمية السجال الذي قاده معسكر شبابي ألماني حول مخاوفه من التغيّر المناخي والمشكلات البيئية. والاختيار بين المرشّحين الرئيسيين عن "الديمقراطي المسيحي" أرمين لاشيت و"الاجتماعي الديمقراطي" أولاف شولتز و"الخضر" أنالنيا بربوك ليس مجرّد اختيار في صناديق الاقتراع لمن سوف يخلف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد 16 عاماً في العاصمة برلين، إنّما تصويت لمستقبل المجتمع. ففي ذاكرة الناخبين مشاهد فيضانات ولايتَي شمال الراي-وستفاليا وراينلاند في الغرب الألماني، مع صعود التخوّف من عواقب الأزمات البيئية لا سيّما الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي منذ يوليو/ تموز الماضي إلى سلّم الأولويات.

وفي استطلاع لقناة "إيه آر دي" أُعِدّ في بداية سبتمبر الجاري، أبدى 33 في المائة من الألمان اهتماماً خاصاً في قضايا البيئة، لا سيّما التغيّر المناخي، إذ تأتي في مقدّمة الاهتمامات، ما فرض في الواقع على مختلف مرشّحي الأحزاب، باستثناء اليمين المتشدّد، تعديل مناظراتهم التلفزيونية لمواكبة تلك المشاغل.

الصورة
المرشح لمنصب المستشار الألماني أولاف شولتز (أود أندرسن/ فرانس برس)
تجمّع انتخابي لـ"الاجتماعي الديمقراطي" رُفعت فيه صور أولاف شولتز (أود أندرسن/ فرانس برس)

وهكذا بات المجتمع الألماني أكثر انفتاحاً واهتماماً إزاء ما يطرحه نشطاء ومنظمات بيئية، ويُدفع ذلك على خلفية كارثة فيضانات الصيف. وعليه فإنّ الأجندات المقبلة لأيّ مستشار أو مستشارة لن تسقط التحوّل الأخضر (نحو طاقة مستدامة وتخفيض الانبعاثات الضارة) الذي يُعَدّ من مشاغل الشارع. فالمحكمة الدستورية في البلاد أصدرت في إبريل/ نيسان الماضي قراراً أفادت فيه بأنّ منظمات البيئة محقّة إذ ترى أنّ القوانين الحكومية لتحقيق تخفيضات موعودة لثاني أكسيد الكربون في موعد أقصاه 2030 لا تستجيب في الواقع للتحديات. وقد شدّدت تلك المحكمة على أنّ الدعوى القضائية التي رفعها نشطاء البيئة ومنظماتهم محقّة، بالتالي سوف يتعيّن على الحكومة المقبلة تعديل وتشديد القوانين حتى نهاية العام المقبل (2022) لتنفيذ إجراءات مهمة جداً بهدف الوصول إلى الأهداف المرجوّة.

قد تبدو مشكلات البيئة وقضية التغيّر المناخي في خارج أوروبا نوعاً من الترف. لكنّها ولأسباب تتعلّق مباشرة بمصالح السكان ومستقبل الأجيال المقبلة، على خلفية تنامي الوعي في خلال السنوات الماضية بالمخاطر المستقبلية على المصالح المشتركة، تدفع نحو ثلث الألمان إلى الأخذ بعين الاعتبار سياسات مشاريع الأشخاص المنوي انتخابهم في هذا الخصوص بهدف تحديد الخيارات.

وفي ندوة أقامها "مجلس السياسات الخارجية" في الدنمارك بالتعاون مع خبراء في الشأن الألماني، أكّد أستاذ الدراسات الألمانية في كلية العلوم السياسية بجامعة "آرهوس" دانييل فينك أنّ القضايا البيئية سوف تقرّر بوضوح اتجاهات مستقبل الحكم في برلين. ويلفت إلى اختلاف المعسكرات، "فالمحافظون بمن فيهم الديمقراطيون المسيحيون والليبراليون يختلفون عن حزب الخضر وحزب اليسار في فهم أهمية تدخل الدولة في حسم القضايا البيئية". أضاف فينك أنّ معسكر يمين الوسط بمختلف تياراته أقرب إلى ترك أمر تقرير مصير التحوّل الأخضر والحفاظ على البيئة لآليات السوق، فيما الخضر واليسار أقرب إلى أخذ توجّهات الرأي العام بعين الاعتبار، وبالتالي فرض تدخّل الدولة وآليات قراراتها السياسية للتخلّص التام من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

ومن خلال التحوّل الأخضر كما يُطلق عليه في ألمانيا، يخشى السياسيون التقليديون، بمن فيهم الديمقراطي المسيحي وشريكه في الائتلاف الاجتماعي الديمقراطي، أن يؤدّي تدخّل الدولة ربّما إلى إجهاض الصناعات الألمانية الممتدة على 250 عاماً. في المقابل، تحقق السياسية أنالينا بربوك شعبية لحزبها الخضر، من خلال ذهابها مباشرة إلى تفهّم انشغالات المجتمع. ويعرف "الخضر" أنّ كثيرين في مجتمع غربي البلاد تحديداً، يريدون تسريع الإجراءات لمواجهة مخاطر محدقة بمجتمعهم بسبب تلمّسهم المباشر للتغيّر المناخي. وهؤلاء وفقاً للباحث الألماني موريتز شرام يواجهون معضلة التضحية بعيدة المدى. فقد أظهرت استطلاعات أُعدّت في الربيع الماضي، كيف أنّ شعبية الخضر تراجعت بسبب اقتراح زيادة أسعار البنزين بمقدار 0.16 يورو، ويُطرح سؤال حول جدية رغبة الشارع الألماني في التوفيق ما بين قلقه من مستقبل المناخ وسداد الفاتورة من جيبه الخاص. وبكلمات أخرى، قال شرام إنّ ثمّة حاجة إلى تغيير جذري في عقلية الناس، "فهم لا يريدون إلحاق الأذية بجيوبهم من جهة ومن جهة أخرى يرغبون في تحسين الظروف المناخية مستقبلاً".

وفي سياق متصل، فإنّ الرغبة في حظر بيع السيارات العاملة على البنزين ابتداءً من عام 2030، وتشديد الخضر على تقريب موعد التوقّف عن استخدام الفحم ليأتي في العام نفسه بدلاً من عام 2038، يثيران حفيظة سكان شرق ألمانيا الأقلّ ثراءً ودخلاً من مواطنيهم في الغرب. فالبلاد تعتمد على الفحم بنسبة 38 في المائة، والتوقّف عنه وعن المحروقات في السيارات يطاول قطاعات واسعة تشمل لوبيات صناعية ومواطنين وخبراء يخشون من أن تصير تكلفة الطاقة وبالتالي التدفئة والكهرباء مرهقة لذوي الدخل المنخفض. فشرائح كثيرة في البلاد، بمن في ذلك سكان ألمانيا الشرقية السابقة، يصنّفون تلك المقترحات "رفاهية" مقارنة بالواقع اليومي الصعب الذي يعيشونه بمداخيل منخفضة. ويتسبّب ذلك في سجال حول مسائل الرفاهية والعدالة الاجتماعية، كنقطة ثانية في اهتمامات الألمان هذه الأيام.

الصورة
المرشحة لمنصب المستشارة الألمانية أنالنيا بربوك (شون غالوب/ Getty)
فوز أنالنيا بربوك ضمانة لبرنامج "الخضر" البيئي (شون غالوب/ Getty)

التطوّر الاقتصادي-الصناعي لا يعني أنّ الألمان جميعاً يعيشون حالة رفاهية. وتفيد أرقام صادرة عن مؤسسات مهتمة بمستوى معيشة الشعب، بأنّ البلاد تضمّ نحو 14 مليون "فقير" بحسب معايير برلين التي تصنّف فقيراً كلّ من يكسب أقلّ من 60 في المائة من متوسّط الدخل، أي نحو 1100 يورو شهرياً. وهذا التناقض بين قوّة ومتانة الاقتصاد الرائد في أوروبا وانتشار الفقر يعود في الأساس إلى تبنّي سياسات سوق عمل تجعل الحدّ الأدنى للأجور (في الساعة) من الأدنى أوروبياً بنحو تسعة يوروهات. وتتأثّر مناطق تقع في شرق البلاد أكثر من غيرها، وهو ما يفسّر في بعض المناطق حصول الحزب القومي المتشدّد (البديل من أجل ألمانيا) على شعبية أكبر من المدن الأخرى. وتدنّي أجور العمل الذي يرد في فلسفة المحافظين إلى "الحفاظ على قدرات الشركات الألمانية على المنافسة" بات يلقى انتقادات كبيرة، كما يحتلّ أهمية بالنسبة إلى المقترعين أكثر من قضايا الهجرة.

وفي اليوم نفسه الذي يصوّت فيه الألمان لأعضاء جدد في برلمانهم الاتحادي والبتّ في منصب المستشار، فإنّ العاصمة برلين تذهب نحو استفتاء شعبي يتعلق بسياسات شركات الإسكان الخاصة الكبيرة، خصوصاً مع ارتفاع بدلات إيجار الشقق والمنازل في السنوات الماضية. وغياب التوافق على رفع الحدّ الأدنى للأجور وازدياد أعداد الفقراء يجعلان قضية الإسكان في مقدمة اهتمامات المرشّحين، إذا ما أُخذ بعين الاعتبار أنّ 54 في المائة من الألمان يعيشون في سكن مستأجر (مقابل 38 في المائة في إسكندنافيا)، وترتفع النسبة في برلين وهامبورغ إلى 83 و76 في المائة على التوالي. وفي هذا الإطار، يبدو حزب اليسار (دي لينكه) أقرب إلى الشعب في طرحه العودة إلى تحديد سقف لبدلات الإيجار. يأتي ذلك في حين يعاني حزب ميركل (الديمقراطي المسيحي) بشقَّيه الوطني والبافاري من تراجع المساواة في خلال 16 عامأً من الحكم. ويخشى المرشّح لخلافتها في منصب المستشار عن حزبها، أرمين لاشيت، أن يجعل تحديد سقف للإيجار سياسةَ بناء مساكن جديدة في المدن الكبرى أمراً غير مربح، فيما تصرّ أنالنيا بربوك عن الخضر ومثلها أولاف شولتز عن الاجتماعي الديمقراطي، على تقليم "الجشع الرأسمالي" في التعامل مع هذه المسألة الحساسة لتأمين مصالح السكان بسقف محدّد وخفض أسعار السكن وتقييد ارتفاع الإيجارات الجنوني الذي يُستغل على نطاق واسع منذ تدفّق نحو مليون مهاجر/ لاجئ في عام 2015. ويحاول حزبا الخضر والاجتماعي الديمقراطي منذ فترة تسويق نفسَيهما كأنّهما يسعيان أكثر نحو تطبيق عدالة اجتماعية، باقتراح رفع الحدّ الأدنى لأجور العمل إلى 12 يورو لكلّ ساعة عمل، فيما يعد الديمقراطي المسيحي بإعفاءات ضريبية لتحسين الظروف، وهو ما يلقى دعم الرأسماليين واستهجان محدودي الدخل. وفي كلّ الأحول، يبدو نحو ربع ناخبي ألمانيا، بحسب الاستطلاعات التي تتناول مشاغلهم، أكثر اهتماماً بهذه القضية مقارنة بقضية الهجرة التي عوّل عليها معسكر اليمين القومي المتشدد لكسب الأصوات في عام 2017. 

الصورة
المرشح لمنصب المستشار الألماني أرمين لاشيت (إينا فاسبندر/ فرانس برس)
هل يحافظ "الديمقراطي المسيحي" على المنصب مع فوز أرمين لاشيت؟ (إينا فاسبندر/ فرانس برس)

على الرغم من أنّ نحو 22 في المائة من الشارع الألماني عبّر عن اهتمامه بسياسات بلاده في قضايا الهجرة/ اللجوء، فإنّ المناظرات والحملات الانتخابية لدى كبريات الكتل الحزبية خصوصاً، لم تعكس تلك الاهتمامات. فالواقعية في الخطاب والسياسات تضع المرشّحين إلى منصب المستشار وكذلك الأحزاب أمام حقيقة أنّ اتّخاذ مواقف وإطلاق وعود صارمة تجاه الهجرة من شأنهما أنّ يضرّا كثيراً بالحاجة الألمانية الماسة إلى العمالة الأجنبية. فالتقارير المتخصصة التي يعرفها المشرّعون والحكام، تلحظ شيخوخة المجتمع الألماني وحاجته في العقود الثلاثة المقبلة إلى عكس انخفاض مستوى الخصوبة والإنجاب البالغ 1.5 مولود جديد لكلّ امرأة الآن، حتى يتمكّن مجتمع الرفاهية من الحفاظ على نفسه وعلى تقدّمه.

وبينما علت النقاشات الساخنة بعد موجة تدفّق المهاجرين طالبي اللجوء في عام 2015 التي عدّها اليمين المتشدد مادة لتسويق نفسه شعبوياً، اختار لاشيت (مرشّح الديمقراطي المسيحي) حتى في عزّ المخاوف من تدفّق مهاجرين أفغان، التحدّث بلغة معتدلة. فشدّد قبل أيام في مناظرة تلفزيونية على "عدم وجوب حدّ أقصى لأرقام قانون اللجوء". وجاء ذلك على الرغم من محاولة أمين عام الاتحاد الديمقراطي المسيحي بول زيمياك القول إنّه "لا بدّ لأزمة 2015 ألا تتكرر". كذلك، لا يبدو حزب "البديل" المتشدّد قادراً على استغلال قضية المهاجرين/ اللاجئين لتحصيل مزيد من المكاسب، وإن ظلّ يحصل على ذلك في ولايات شرق البلاد، خصوصاً أنّ ألمانيا لم تستطع دمج جميع الوافدين القادرين على العمل في السوق مع تنامي المشاعر الناقمة على سياسيي الغرب.

وفي وقت يظهر المتشددون حيال الهجرة في معسكرَي المحافظين ويسار الوسط، فإنّ خبراء في ألمانيا ينظرون إلى معضلة حاجة البلاد إلى مئات آلاف من اليد العاملة الأجنبية، ما يجعل السياسيين في الوسط متردّدين في جعل التشدّد ظاهراً. وبحسب ما يذهب الباحث موريتز شرام في كتابه الصادر حديثاً حول "سياسات ألمانيا في القرن الحادي والعشرين"، فإنّ تحديات الرقمنة وإنشاء بنية تحتية متعلقة بالتحوّل الأخضر والمناخ، خصوصاً في مجال اعتماد السيارات العاملة بالطاقة الكهربائية بدلاً من المحروقات، سوف تتطلب اللجوء إلى عمّال مهرة وحرفيّين، وهذا أمر ينقص ألمانيا. ويرى أنّ "ألمانيا سوف تحتاج في المستقبل إلى الهجرة لسدّ نقص العمالة، تقدّر بـ400 ألف (مهاجر) في العقود المقبلة، وهو أمر لا يجري الحديث عنه بصوت عال، في حين أنّ الجميع على علم به".

المساهمون