في مدينة أريحا جنوبي إدلب، يحافظ عدد من الحرفيين على "النول الخشبي"، ففقدانه بالنسبة لهم يعني فقدان جزء من تراثهم، وبينما لم تعد المهنة رائجة، إلا أن التمسك بها بات نوعاً من المتعة.
يقول أبو أحمد، وهو أحد المحافظين على "النول الخشبي"، لـ"العربي الجديد": "اشتهرت مدينة أريحا على مدار عقود طويلة بهذه الصناعة، وكان غالب أبناء الحي يعملون فيها قبل أن يتراجع الطلب على منتجاتهم، نتيجة تمدد صناعات النسيج الحديثة على حساب الصناعة التقليدية".
يتذكر أبو أحمد كيف كانت طرقات أخشاب النول تُسمع في الصباح الباكر من غالبية منازل الحي لكثرة انتشارها، وكثرة الطلب على منتجاتها، قبل أن تصبح منسوجات النول لا تطلب إلا بقصد الزينة. "نسيج النول اليدوي انتقل عبر الأجداد إلى الأجيال، ويعد من الحرف العريقة التي رافقت البشرية طوال مئات السنين، وما زالت تحافظ على شكلها التراثي القديم من دون أن تعبث بها الطرق الحديثة لتفسد متعة العمل بها، كما حدث مع غيرها من المهن".
تعترض طريق العاملين في النسج عبر النول الخشبي صعوبات عدة، قد يبدو أكبرها تراجع الطلب على المنتجات، إضافة إلى صعوبات تأمين المواد الأولية، وارتفاع أسعارها، فضلاً عن صعوبة صيانة النول الدورية التي يجب على الحرفي إجراؤها. يشكل الخشب أهم أجزاء النول، وعن طريقه يجري نسج الخيوط بشكل احترافي لتشكل لوحات فنية غاية في الجمال، وترجع جمالياته إلى طريقة تحويل الخيوط الملفوفة إلى قطع قماش، أو منسوجات.
يعتمد النول على جهد الحرفي، ولا وجود لأي قطع حديثة، إذ يستعمل الحرفي قدميه ويديه في حركات متناغمة لتتداخل الخيوط المنتشرة على النول فيما بينها، وتشكل اللوحة التي يريد رسمها. يقول أبو اصطيف، وهو أحد الحرفيين المتمسكين بالمهنة، لـ"العربي الجديد": "تتشابه فكرة عمل النول مع أسلوب النسيج الصوفي الذي تعتمده النساء في حياكة الملبوسات، عبر تداخل الخيوط لتشكل قطعة قماش برسمة معينة. تبدأ العملية بجمع الخيوط وتشكيلها ضمن بكرات، وغالباً ما يجري تسليم هذه المهمة لأحد الأطفال العاملين في الورشة، بعدها يقوم الحرفي بفرد الخيوط على النول بشكل طولي، وبمسافات محددة بين الخيط والآخر، ثم إدخال الخيوط بشكل عرضي مع الخيوط الطويلة، شريطة أن يسير الخيط في مسار محدد، ثم يشد الحرفي تلك الخيوط على بعضها لتتماسك".
يضيف أبو اصطيف: "يغير الحرفي ألوان الخيط الذي بين يديه، بحسب الرسمة التي يريد إنجازها، فتتداخل الألوان مشكلة اللوحة المطلوبة، وبعد الانتهاء من عملية النسيج يمكن تحويل القطعة المنسوجة إلى إحدى السيدات العاملات بالخياطة لتفصيل الشكل المطلوب، أو حياكتها كما يرغب الزبون".
أبو محمد، حرفي من أريحا، يعمل على نول يتجاوز عمره ثلاثمائة عام، وقد ورث المهنة عن أجداده، وعلّمها لأولاده، يقول لـ"العربي الجديد": "دخل التطور على بعض تفاصيل العمل بالنول، ومنها الخيوط المستعملة، فقد اقتصرت الخيوط سابقاً على الصوف، لكن الحرفيين طوّروها، وباتوا يستعملون خيوط الدرانلون، والمخمل أيضاً".
تتنوع المنسوجات التي تنتجها ورشة أبو محمد، ومن بينها سرج الحصان، و"خرج الجمل"، و"الصمديات" التي تعلق في المضافات، إضافة إلى الحقائب، وبيوت المصاحف، ويعتبر التصدير هو السوق الأهم لتصريف منتجات النول اليدوي، نتيجة قلة الطلب عليها في مناطق الشمال السوري.
بدوره، يقول مصطفى الحاج يوسف، من مدينة إدلب، لـ"العربي الجديد"، إنه من هواة جمع هذه الأقمشة، ويستمتع برؤية الحرفيين العاملين بهذه المهنة، إذ إن "صوت النول أشبه عندي بموسيقى تنقلني إلى عهود قديمة، وتترك في نفسي سكينة، على عكس أصوات المعامل الحديثة التي تصم الآذان".
يسعى مصطفى إلى امتلاك أشكال من المنسوجات التي حبكت على النول لتعليقها في مضافة بيته، إلا أن ضيق الأحوال المادية يمنعه من شراء كل ما يرغب فيه. يقول: "متانة الحياكة وجودة الخيط المستعمل تجعلان هذه القطع تعيش لسنوات طويلة، ومن الممكن أن يرثها أولادك من بعدك، وهذا ما يعطيها قيمة معنوية، إضافة إلى قيمتها الجمالية".
ويأمل العاملون في هذه المهنة أن تتحسن الأسواق، ويعود الطلب على منتجاتهم إلى ما كان عليه في السابق، ليعود الحرفيون الذين تركوا المهنة إليها، وليساعدوا في الحفاظ على استمرارها، ونقلها إلى الأجيال القادمة، بينما يخشون من اندثارها في حال استمرت الأوضاع على الحال الحالي، إذ تراجعت أعداد النولات الخشبية في مدينة أريحا من مائة إلى أقل من عشرة، ما يهدد بزوالها واندثارها.