المهجَّرون من درنة... الوجه المغيَّب لكارثة الفيضان والعجز الحكومي

22 سبتمبر 2023
ربع سكان درنة تأثّروا مباشرة بكارثة الفيضانات التي أصابتها (محمود تركية/ فرانس برس)
+ الخط -

"كارثة أكبر من إمكانات ليبيا"، هكذا وصف كثيرون كارثة الفيضانات التي اجتاحت درنة نتيجة العاصفة "دانيال" في 10 سبتمبر/ أيلول الجاري، ومنهم مبعوث الأمم المتحدة إلى البلاد عبد الله باتيلي. لكن هذا الوصف لا يعفي السلطات من تحمّل مسؤوليتها حيال الوضع السائد، من هنا يطرح السؤال نفسه حول كيف ستتعامل البلاد المنقسمة على نفسها منذ نحو 10 سنوات مع قضايا الكارثة الكبيرة، وبينها أزمة النازحين. 
وفي وقت لم يحدد المتحدث باسم حكومة مجلس النواب عثمان عبد الجليل، في كل المؤتمرات الصحافية التي عقدها خلال أيام الكارثة، عدد النازحين، أشار المتحدث باسم حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، محمد حمودة، إلى فقدان نحو 30 ألف شخص منازلهم، في وقت قدّرت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، في منشور على "إكس" عدد النازحين بـ43,059. ويُضاف هذا الرقم إلى إحصاءات غير رسمية تتحدث عن وفاة وفقدان نحو 20 ألف شخص، ما يجعل نسبة المتأثرين مباشرة من كارثة درنة 25 في المائة من عدد سكانها الـ200 ألف، علماً أن أي إحصاء رسمي للسكان لم ينفذ في ليبيا خلال السنوات الـ20 الأخيرة. 

يقول صالح الدينالي الذي نزح من درنة بعد الفيضانات لـ"العربي الجديد": "أعتقد بأن عودتنا قد تطول كثيراً، حتى أنها قد تكون مستحيلة"، علماً أنه كان فقد زوجته واثنين من أبنائه في الكارثة، في حين نجا مع اثنين من أبنائه. ويروي أن القدر نجّاه بعدما استطاع التشبث بجذع شجرة أنقذه من الغرق، في حين تواجد الولدان في منزل جدتهما بمنطقة شيحا المرتفعة، والتي لم تتأثر كثيراً بالكارثة. ويقول: "ما يؤلمني ويبعد النوم من عيني أنني عجزت عن إنقاذ زوجتي وولدي، والآن لا أستطيع التعامل مع الوضع بعدما تهدم منزلي، وخسرت كل أرزاقي. وحالياً لا نملك حتى أوراقاً ثبوتية". ويشير إلى أنه قرر ألا يعود إلى درنة، والانتقال للسكن في المنطقة التي يتحدر منها في بنغازي، ويعلّق: "أصبحت درنة محطة لذكرياتي المؤلمة، وسأحاول توفير حياة جديدة لمن نجا من أفراد أسرتي". ويلفت عضو جمعية "التيسير" الأهلية للإغاثية حسن بركان إلى أن فقدان المنازل ليس العامل الوحيد الذي دفع النازحين الى مغادرة درنة، فالمشكلات كثيرة وبينها التحذيرات الدائمة من وزارة الصحة والمركز الوطني لمكافحة الأمراض من استعمال المياه الجوفية، والتعرّض لمخاطر الأوبئة في المنطقة المنكوبة. 

ملامح لتسييس الكارثة
ورغم أن جميع الليبيين سارعوا إلى مساعدة المنكوبين في درنة، ما جعل القوافل تتوالى إلى المدينة محمّلة بكل ما كان يلزم من احتياجات صحية ومستلزمات الأكل والشرب والملابس والأغطية وغيرها، وصولاً حتى الى الأكفان وأكياس الدفن، يتوقع أن تتقلص مساهمات نظام "الفزعة" الشعبية بعد فترة، وكذلك المساعدات الدولية، كما يقول بركان الذي يؤكد بالتالي أن "المسؤولية الأكبر ستقع على عاتق السلطات". من هنا يبدي مراقبون خشيتهم من أن يؤثر الانقسام السياسي والمؤسساتي بين شرق البلاد وغربها على فرص إيجاد حلول مناسبة لأزمة النازحين، خاصة بعد ظهور ملامح "لتسييس الكارثة"، إثر الرد القاسي لقوات الأمن على تظاهرة نظمها أهالي درنة الأحد الماضي للمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن مأساة المدينة وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، والمجلس التسييري، وذلك من خلال إخضاع الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، وبينهم صحافيون وإعلاميون، لتدابير أمنية صارمة. 
كما قطعت السلطات الاتصالات عن المدينة لمدة يومين بحجة انقطاع كابل للألياف البصرية في موقع لم تكشفه، ما عزل المنكوبين عن العالم إلا من أخبار وفرها وزير الصحة في حكومة مجلس النواب، عثمان عبد الجليل، في مؤتمره الصحافي اليومي، والمتحدث باسم لجنة الطوارئ والاستجابة السريعة في الحكومة المكلفة من مجلس النواب، محمد الجارح.
ويخشى بركان أن تزيد الإجراءات الأمنية المشددة مخاوف السكان الباقين في درنة، والذين لم تتضرر بيوتهم، ويقول: "قد يخرج البعض من المدينة خشية التعرض لأعمال عقابية ترتبط بتنظيم تظاهرات والمشاركة فيها، أو أيضاً بالمطالبة بالحصول على تعويضات عن الأضرار أو بمأوى جديد، في حين يحق لجميع المتضررين أن يطالبوا بمحاسبة من تسببوا في الكارثة". 

الصورة
سكان درنة عاجزون عن التعامل مع الوضع السائد بعد الفيضانات (كريم ساهب/ فرانس برس)
سكان درنة عاجزون عن التعامل مع الوضع السائد بعد الفيضانات (كريم صهيب/ فرانس برس)

بين البقاء والنزوح
ميدانياً، لا يزال كثيرون من سكان درنة يعتمدون على ما يصل إليهم من مساعدات غذائية ومياه وأدوية، في حين منعت سلطات الشرق عبور سيارات إغاثة قادمة من الغرب مدينة سرت (وسط)، وطالبت بتسليم شحنات المساعدات إلى الهلال الأحمر، ما زاد عزلة منكوبي درنة، وأقلق كثيرين خاصة ناشطي الإغاثة، كما يؤكد بركان. وفيما نفذت جهود فردية لتأمين سكن للنازحين، وذلك وفقاً لتقاليد "الفزعة" الشعبية، لم تتوفر إحصاءات لمن جرى توفير مأوى لهم، علماً أن بعض هذه المساكن قُدمت مجاناً عبر عروض نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. 
وفضل النازح عادل الشاعري أن يقيم في مدرسة بإحدى ضواحي بنغازي الشرقية بعدما فتحت أبوابها لاستقبال النازحين، وبرر قراره بالقول لـ"العربي الجديد": "لا أرغب في الابتعاد عن درنة لأن بلديتها وعدت النازحين ببناء مجمعات تضم بيوتاً جاهزة على تخوم المدينة قريباً، في انتظار إنجاز عملية إعادة الإعمار". 
وبخلاف الشاعري، قررت أسرة انويجي جبريل الاستقرار في مدينة مصراتة (غرب) والتي وصلت الأسرة إليها الأحد الماضي وبدأ أفرادها في ترتيب ظروف عيشهم. وتبرر نجمة، وهي ربة الأسرة، قرار الاستقرار خارج درنة وعدم انتظار الوعود، بقناعة أسرتها بأن "الحكومات عاجزة حتى عن توفير مجارف يدوية لانتشال الجثث، ما يجعل إعلاناتها مجرد كلام لإخفاء فضيحة عجزها عن فعل أي شيء". وتتحدث نجمة عن أنها تواجه مع أولادها الثلاثة صعوبات جمّة في بدء حياة جديدة في مصراتة، منها إجراءات تأكيد وفاة زوجها عبر أوراق تطلبها مصلحة الأحوال المدنية تمهيداً للإفادة من راتبه التقاعدي، وكذلك نقل ملفات أفراد الأسرة إلى مدارس مصراتة إلى جانب الحسابات المصرفية، لأن الجهات الحكومية في درنة توقفت عن العمل، وتقول: "لا نملك شيئاً حالياً سوى بعض المدخرات، ونعتمد على مساعدات يوفرها أقرباء". 

الصورة
تقع المسؤولية الأكبر لتوفير الاحتياجات على عاتق السلطات الليبية (محمود تركية/ فرانس برس)
تقع المسؤولية الأكبر لتوفير الاحتياجات على عاتق السلطات الليبية (محمود تركية/ فرانس برس)

وعود وتحذيرات
ومطلع الأسبوع الجاري أعلنت الحكومتان في ليبيا أنهما باشرتا توفير مساكن جاهزة لإيواء النازحين حتى إعادة إعمار المدينة، لكن أي شيء لم يتحقق على الأرض، إذ اكتفت حكومة الوحدة الوطنية بإعلان تطوع رجال أعمال لإنجاز بناء 2000 وحدة سكنية متوقفة في مدينة درنة، أما حكومة مجلس النواب فأعلنت أن شركات مصرية ستتولى إعمار مدينة درنة. 
وهكذا يظل النازحون يبحثون عن مساكن من خلال حملات التطوع التي نشط بعضها في جمع أموال لاستئجار مساكن للنازحين. 
وفعلياً تتعدد الضغوط على سكان درنة لإجبارهم على ترك منازلهم، إذ حذرت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر إيمان الطرابلسي من "خطورة الأوضاع في درنة بسبب الألغام ومخلفات الحرب، ما يعيق أيضاً جهود استخراج جثث لا تعرف أماكن وجود بعضها". وفي مشهد آخر يعكس عجز السلطات عن مواجهة مشكلة النازحين التي لا تقتصر على درنة فقط، بل تمتد إلى مدن وقرى أخرى متضررة من العاصفة في كامل منطقة الجبل الأخضر، ولو في شكل أقل، حيث تركت العاصفة كثيرين من دون مأوى أو عمل، أظهرت مواقع إلكترونية حجم الدمار الكبير الذي لحق بمنازل في مدن البيضاء وسوسة وشحات والمرج، وقرى ومناطق أخرى صغيرة تضررت في شكل كبير، بينها الحمامة التي طالب بعض سكانها المتضررين بتأمين منازل لإيوائهم، ما يزيد تهديدات الأزمة ويعزز واقع أنها "فوق القدرات الليبية". 
وقال سكان منطقة الحمامة القريبة من مدينة البيضاء، في بيان، إن "عميد بلدية الساحل (التي تقع الحمامة ضمنها) لم ينقل الواقع بصدق حين نفى وجود أضرار، في حين فقد أكثر الأهالي منازلهم، وباتوا نازحين". وبعيداً عن محيط الكارثة، تفرّق النازحون بين مدن وقرى عدة. ويقول بركان: "أعرف أخوين اضطر أحدهما للسكن مع أسرته في بنغازي، في حين حصل أخوه على مسكن في زليتن التي تبعد 700 كيلومتر من درنة. ويعني ذلك أن مشكلات اجتماعية ستواكب النزوح خصوصاً إذا عجزت السلطات عن إعادة الحياة إلى درنة وباقي المناطق المنكوبة". 

التلاميذ النازحون
إلى ذلك تزامنت كارثة الإعصار مع حلول الأسبوع الثاني من موسم السنة الدراسية الذي كان ليبيون فرحوا لأنه بدأ مبكراً هذا العام. وعطلت الكارثة الدراسة أسبوعين حتى الآن، مع احتمال أن تزيد هذه المدة بالنسبة إلى المدارس التي لا تزال تؤوي نازحين في مناطق مختلفة، ومنها 17 في بنغازي وحدها، بحسب ما تفيد وزارة التربية والتعليم في حكومة الوحدة الوطنية التي أحصت أيضاً تضرر كل مدارس درنة، و114 مؤسسة تعليمية كلياً أو جزئياً في 15 بلدة جراء العاصفة "دانيال".  
وشكلت الوزارة لجنة كلفتها إعداد خطة بديلة للدراسة في المناطق المُتضررة. ودعت المدارس الخاصة إلى استيعاب أبناء النازحين ضمن طلابها، وهو ما استجابت له بعض المدارس التي تملك القدرة والرغبة، لكن هذا الأمر لن يحل مشاكل جميع التلاميذ النازحين. ويعلّق بركان بالقول: "قد تحل الحكومة مشكلة التعليم، وتقبل أي طالب نازح، لكن المشاكل والتداعيات أكثر من ذلك، ومنها أن أكثر الأسر النازحة فقدت مصدر رزقها. وحتى لو استقبلت المدارس طلاب الأسر النازحة وتكفلت بتدريسهم ومنحهم الكتب، فمن أين ستجلب هذه الأسر باقي مصاريفها لتوفير مسكن دائم وأكل وملابس ومواصلات وعلاج بعدما تركت كل شيء تحت أنقاض درنة، أو في أعماق مياه البحر؟". 

المساهمون