استمع إلى الملخص
- تشير الأدلة إلى مسؤولية نظام الأسد عن إدارة المقابر الجماعية، حيث نُقلت جثث المعتقلين السياسيين ودفنت سراً، مع شهادات من عسكريين سابقين تبرز الانتهاكات.
- تُعتبر المقابر الجماعية جريمة حرب، وتدعو إلى محاسبة المسؤولين، مع توثيق ضروري لضمان المحاسبة رغم التحديات مثل نقص الشهادات أو تدمير الأدلة.
سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول، لتبدأ ولادة سورية الجديدة، كما بدأت تتضح الكثير من الأسرار والخفايا، فظهرت سجون سرية، وسجون تحت الأرض، وهناك أحاديث كثيرة عن مقابر جماعية.
عمل نظام الأسد المخلوع، على مدار 6 عقود، على تحويل سورية إلى سجن كبير لأصحاب الرأي والمفكرين المناهضين لجبروته وظلمه، لكن ما طالعه الناس عبر وسائل الإعلام أخيراً لم يتخيله عقل بشري، إذ لم يكن السوريين يتخيلون أنهم كانوا يسيرون فوق معتقلات تضم أحياء يعذبون، وآخرين قتلوا تحت التعذيب، ولم يكن أحدهم يتوقع أن البلاد تعج بمقابر جماعية حُفرت لتبقى شاهداً على الإجرام والقهر.
ويتواصل الكشف عن مقابر جماعية في مناطق سورية مختلفة، وبعضها تضم عشرات الجثامين لمعتقلين قتلوا إعداماً أو تحت التعذيب. وأظهرت وثائق حصل عليها المرصد السوري لحقوق الإنسان، ونشرها الثلاثاء، مقتل نحو 600 مدني تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري السابق بطرق تعذيب وحشية.
ومنذ سقوط نظام الأسد جرى الكشف عن ست مقابر جماعية، من بينها مقبرة القطيفة التي تقع في محافظة ريف دمشق، بالقرب من مركز قيادة الفرقة الثالثة في الجيش السوري، وتشير التقارير إلى أن هذه المقبرة استخدمت لدفن أعداد كبيرة من المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، والذين جرى نقل جثثهم إليها، بواسطة شاحنات كبيرة، لتدفن في حفر عميقة.
جرى اكتشاف مقبرة ثانية في بلدة نجها بريف دمشق، وهي عبارة عن مقبرتين، إحداهما جديدة والأخرى قديمة، إذ جرى حفر خنادق كبيرة لدفن جثث معتقلين قضوا تحت التعذيب، أو بعد تنفيذ أحكام الإعدام، وتشير معلومات المنظمات وتقارير إعلامية إلى أن شاحنات كانت تستخدم لنقل الجثث إليها.
كما نقلت جثث معتقلين ماتوا تحت التعذيب من مشفى تشرين ومشفى حرستا ومشفى 601 العسكري إلى مقبرة في مدينة حسياء الصناعية، وكانت هذه المقبرة تخضع لحراسة مشددة من قبل الأمن العسكري.
وفي جديدة الفضل، قرب حقل الرمي، حفرت قوات النظام عدداً من المقابر الجماعية، وهي شبيهة بالمقبرة التي حفرها الضابط أمجد يوسف في حي التضامن، وبمقبرة جرمانا. كما كشفت عمليات البحث والتقصي عن مقبرة بالقرب من جسر بغداد بريف دمشق، حيث تم إحصاء وجود نحو 50 جثة معبأة بأكياس خيش حتى اليوم، معظمها من معتقلي سجن صيدنايا.
تواصل منظمات حقوقية العمل على استكشاف المقابر الجماعية
وتشير الأدلة المتاحة إلى أن نظام الأسد هو المسؤول الأول عن هذه المقابر وإدارة عمليات الدفن فيها، وأنه نُقلت جثامين المعتقلين من السجون والأفرع الأمنية إلى هذه المقابر، ودُفنت سراً، وهم في الغالب معتقلون سياسيون تعرضوا للتعذيب أو الإهمال الطبي، وجرى دفنهم في هذه المقابر للتخلص من جثثهم.
وقدم العديد من العسكريين السابقين الذين فروا إلى خارج البلاد شهادات حول عمليات نقل الجثث إلى المقابر، وعن وجود مقابر كثيرة لا يعرف أحد عنها شيئاً. يقول أحد هؤلاء لـ"العربي الجديد" شريطة عدم ذكر اسمه: "كنت شاهداً على نقل الجثث بشكل جماعي على مدار أعوام، إذ كنت أخدم في سجن صيدنايا، وكنا نعبئ الشاحنات بجثث المعتقلين الذين ماتوا في الزنازين أو تحت التعذيب أو بالإعدام، وأبلغني أحد العسكريين الذين كانوا يخدمون معي بأن هناك حفراً كبيرة جهزت مسبقاً لدفنهم، وأنهم يقومون برمي الجثث من الشاحنات فيها. كنا عبيداً مأمورين، لكن مشاهدة تلك الجثث تركت في نفسي ندباً لن أنساها ما حييت".
في 27 إبريل/نيسان 2024، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية مشاهد لجنود تابعين لنظام الأسد يقومون بارتكاب مجزرة بحق عدد من المدنيين السوريين وقعت في بداية الثورة عام 2013، وخلفت تلك المشاهد صدمة في الرأي العام العالمي. كان الجنود يدفعون المعتقلين إلى حفرة بحي التضامن في دمشق، ثم يقومون بإطلاق النار عليهم، ومن بعدها إشعال إطارات السيارات فوق جثثهم، قبل طمر تلك الحفرة.
لكن هذه المشاهد لم تحرك ساكناً لدى المجتمع الدولي أو العربي، وتناساها كثيرون بعد أسابيع قليلة، وكأنها لم تكن، لكنها فتحت أعين السوريين على قضية المقابر الجماعية، لتبدأ جهات ومنظمات حقوقية البحث حولها، من دون أن تتكلل تلك المساعي بالنجاح، بسبب رفض النظام إفساح المجال لأية جهة حقوقية للتحقيق.
وفور سقوط النظام، ظهر معتقلون على قيد الحياة، بعد أن كان ذووهم يظنون أنهم ماتوا في المعتقلات، بينما خاب ظن آخرين بعد طول انتظار، حين اكتشفوا أن ذويهم من المعتقلين ماتوا إعداماً أو تحت التعذيب قبل سنوات.
بين أكوام التراب وبقايا العظام، يمشي علي الحسين بخطوات ثقيلة، تتفحص عيناه كل شبر من الأرض بحثاً عن أي دليل حول مصير صديقه محمد حسن الذي اختفى في سجن صيدنايا سيء الصيت قبل اثنتي عشرة سنة. وصل الحسين إلى مقبرة جماعية تضم نحو خمسين جثة، بالقرب من طريق مطار دمشق الدولي، حاملاً صورة باهتة لصديقه الذي كان شاباً حين اعتقاله.
اعتقل محمد في عام 2012، على يد عناصر من الأمن العسكري في درعا، وأودع "سجن الفرع 215"، وآخر خبر وصل عنه كان أنه شوهد في سجن صيدنايا، ثم انقطعت أخباره بشكل كامل. وكان علي يأمل أن يجد في المكان إجابة حول مصير صديقه المجهول، بعد أن يأس من إيجاده بين المحررين من سجون النظام. يقلب في المكان عسى أن يجد بين الجثامين ما يثبت أن محمداً لا يزال على قيد الحياة، أملاً في أن لا يعود إلى والدة صديقه خائباً حزيناً خالي الوفاض.
يقول الحسين لـ"العربي الجديد": "فقدنا الكثير من الأحباب، ووصلت أوراق ووثائق إلى أهلهم تثبت وفاتهم في المعتقلات، لكن هناك آخرين ظل الأمل معلقاً أن يخرجوا أحياء، ومنهم صديقي محمد الذي ناشدتني والدته البحث عنه في سجن صيدنايا، لكني لم أجده بين الخارجين الأحياء. سمعت أن مقبرة جماعية اكتشفت على طريق المطار، فرافقت الذاهبين إلى هناك على أمل إيجاد أي خبر عن محمد، لكن لا شيء يدل على هويات أصحاب هذه الجثامين. كنت أتمنى أن أزف البشارة لوالدته وشقيقه، وأن أشاركهم فرحة العودة والتحرير التي أطفأتها مشاهد الجثث المعبأة في أكياس من الخيش، والتي ضاعت معالم أصحابها. لكني لم أوفق بإيجاده بين المحررين ولا بين الجثث المكتشفة".
يؤكد كثيرون وجود الكثير من الجثامين في المقابر الجماعية التي يتوقع وجودها في بقع مختلفة من البلاد، والتي تضم آلاف الضحايا الذين سقطوا ضحايا العنف والحرب. كل جثة تحمل قصة، وشهادة على حجم المعاناة التي عاشها الشعب السوري، فخلف بقايا كل هيكل عظمي، هناك أسرة فقدت عزيزاً، وقلب ينزف ألماً وحسرة.
تواصلنا مع بعض الفرق والمنظمات التي بدأت العمل على استكشاف المقابر الجماعية، لكن العمل ما زال في بدايته، وهم يعتمدون على معلومات من شهود عيان، أو على المعلومات المتوافرة سابقاً، ويستعينون بجهود بعض الناشطين في المجال الإنساني.
وخلف اكتشاف هذه المقابر الجماعية تأثيرات عميقة في نفوس أهالي الضحايا، والمجتمع السوري بشكل عام، ويعتبر إنشاء المقابر الجماعية ودفن آلاف الأشخاص فيها جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية، وينبغي ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم، وتقديمهم إلى العدالة.
كما تعتبر المقابر الجماعية السورية شاهداً إضافياً على حجم الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري، ومدعاة للمجتمع الدولي لبذل مزيد من الجهود لكشف الحقيقة ومحاسبة الجناة، وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.
ويضع القانون الدولي الإنساني قيوداً صارمة على التعامل مع الجثامين في أوقات النزاع المسلح، إذ يحظر بشكل قاطع أي انتهاك لكرامة الموتى. بينما تعتبر المقابر الجماعية انتهاكاً صارخاً لهذه القوانين، خاصة عندما تكون ناتجة عن أعمال عنيفة، أو إعدامات خارج نطاق القضاء.
وتحمي اتفاقيات جنيف ضحايا الحرب، وتنص على ضرورة التعامل باحترام مع جثث القتلى ودفنهم بكرامة، وتجعل هذه الاتفاقيات من جريمة الحرب جريمة ضد الإنسانية، وتطالب بمحاكمة مرتكبيها.
ولتوثيق المقابر الجماعية أهمية قصوى في ضمان محاسبة الجناة، وتقديم الأدلة اللازمة لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم، وكذا حماية حقوق وكرامة الضحايا، وتكريم ذكراهم، ومنح أهلهم الحق في معرفة مصيرهم. وتشمل أبرز التحديات التي تواجه التحقيقات في المقابر الجماعية نقص الشهادات بسبب مرور الوقت، أو تدمير الأدلة، أو خوف من كانوا شهوداً من الملاحقة والمساءلة، أو تعرضهم للتهديد.