في أحد أعرق الأسواق وأقدمها في مدينة طرابلس شماليّ لبنان، يقع مطعم الدبوسي في حيّ التربيعة، حيث تباع أشهر المأكولات الشعبية اللبنانية والطرابلسية تحديداً، أي أكلة المغربية التي تشتهر المدينة فيها منذ عقود طويلة. وعادة ما يشهد المحل ازدحاماً لشراء شطيرة المغربية، التي كانت تُعَدّ طعام الفقراء في أكثر المدن فقراً على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، على عكس اليوم.
يقف أحمد الدبوسي الملقب بـ "أبو الشهيد" على بسطة المغربية يقلبها يميناً وشمالاً. لا زحمة ولا صراخ ولا مناداة في الزقاق الشهير. حتى رائحة السمن العربي مع البصل والحمص تتلاشى، هي التي كانت تفوح في المنطقة المحيطة وتحفز المارّة على التوقف لتناول شطيرة أو صحن من المغربية.
ما هي المغربية؟
يشرح أحمد أنّ أكلة المغربية الشعبية هي توارث عائلي لآل الدبوسي منذ عام 1930، إذ إنّ جده لوالده افتتح أول محل للمغربية في سوق العطارين التراثي في طرابلس، ثم عمد إلى توسعته وافتتاح دكان مطلع خمسينيات القرن الماضي في سوق التربيعة. وقد ورث أحمد المهنة عن والده منذ 40 عاماً.
يقول إنّ أصول الأكلة الشهيرة تعود إلى المغرب، كما تشير تسميتها المحلية، إلا أنها أصبحت من الأطباق التقليدية الشعبية في طرابلس، مثلها مثل التبولة والكبة وحلاوة الجبن والكنافة. وتتكون المغربية من السميد مع طحين القمح أو الذرة، ويضاف إليها الحمص المسلوق والبصل المقلي بعد تقطيعه إلى قطع صغيرة، ثم تُقلى مع السمن أو الزبدة البلدية، بعد إضافة القرفة والبهارات الناعمة.
ويشير الدبوسي إلى أن بعض المدن حاولت تقليد المغربية، لكنها اعتمدت حبة صغيرة بحجم حبة البرغل الخشن، فيما المغربية الطرابلسية مصنوعة بطريقة تبقي بعضها منفصلاً عن بعض، فلا تتحول إلى عجينة ممزوجة، و"بخلطة سرية مصنوعة حصراً في محالّنا".
أزمة خانقة
يرفض أحمد اعتبار المغربية أكلة للفقراء، "بل هي أكلة جميع اللبنانيين الذين كانوا يتقاطرون إلى طرابلس منذ عقود لتجربتها من شتّى الطبقات الاجتماعية، حتى باتت طقساً يرافق زيارة المدينة". في الوقت نفسه، يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية الخانقة أثرت بشكل قاسٍ في المهنة التي يمتهنها منذ عقود، لأن أسعار المواد الأولية باتت خيالية، فبعدما كان يباع الصحن بأربعة آلاف ليرة (2.6 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، ويضاف إليه صحن من "الكبيس المخلَّل"، بات يباع اليوم بخمسة عشر ألف ليرة لبنانية (10 دولارات حسب سعر الصرف الرسمي). أما الشطيرة المتعارف عليها، فكانت تباع قبل الأزمة بألف ليرة لبنانية (0.6 دولار)، لكنها تباع اليوم بثمانية آلاف ليرة لبنانية (5.3 دولارات)، ما حرم شريحة كبيرة تناولها.
ويأسف أحمد لأن جزءاً كبيراً من الزبائن بات يمرّ للسؤال عن الأسعار ثم يغادر دون شراء المغربية، قائلاً إنه على مدى 50 عاماً لم يمرّ أحد من دون أن يتوقف لتذوق هذه الأكلة الشعبية العريقة، لأن الحد الأدنى للأجور لم يعد يكفي لشراء سوى اللوازم الأساسية، وباقي الأمور أصبحت من الكماليات.
وداعاً للدجاج
وعن مغربية الدجاج التي تزين المائدة اللبنانية خلال شهر رمضان، وقد باتت طبقاً رسمياً في بعض مطاعم لبنان، يؤكد أنها باتت شبه مستحيلة، وخصوصاً أنه كان يُعدّها قبل الأزمة ثلاث مرات في الأسبوع الواحد، وكانت تنفد بعد ساعتين من طبخها. "أما اليوم، فلا نجرؤ على طبخها لأسباب عدة أهمها الغلاء الفاحش لصدر الدجاج الذي يضاف مع خلطة بهارات أخرى للمغربية، وانقطاع التيار الكهربائي، ما سيؤدي إلى فساد الدجاج. لذلك، ألغينا فكرة الدجاج مع المغربية".
ويختم أحمد حديثه، قائلاً إن "المغربية كانت خلال عهد الازدهار وحتى سنوات خلت مربحة جداً، لأن أصحاب الفنادق والمنتجعات كانوا يعتمدونها كإحدى وجباتهم اليومية، ويشترونها من محالنا كوجبة لبنانية أصيلة تعكس صورة لبنان وإحدى أهم مدنه. لكن منذ سنة ونيف، توقفت تدريجاً، ولمسنا ذلك في رمضان الفائت والصيف الذي سبقه".
الزمن الجميل
أمام دكان الدبوسي للمغربية، يقف وسيم المصري، وهو رب أسرة مكونة من 5 أفراد، مؤكداً أنه كان يشتري المغربية كأكلة رئيسية 3 مرات بالشهر، لكنه الآن يشتريها مرة واحدة شهرياً وأحياناً كل شهرين، بعدما بات سعر الكيلو ثمانية عشر ألف ليرة (12 دولاراً)، فضلاً عن "الكبيس المخلَّل" وسعره سبعة آلاف ليرة لبنانية (4.6 دولارات)، علماً أن راتبه الشهري لا يتجاوز المليون ليرة لبنانية (نحو 667 دولاراً حسب السعر الرسمي، فيما لا يتعدى الـ60 دولاراً حسب سعر السوق السوداء).
يستذكر وسيم مدينة طرابلس "التي كانت تعجّ بالحياة والحركة التجارية، على الرغم من المعارك والأزمات والحروب. كان الناس يقفون في طابور لشراء المغربية والتلذذ بها، وكنا نجلبها كهدية لأصدقائنا في بيروت والبقاع لكونها تراثية ورخيصة في آن واحد".
يجلس أبو رامي على كرسيّه أمام محله لبيع الألبسة المجاور لدكان الدبوسي، ويتناول شطيرة المغربية. يقول إنه كان في السابق يشارك في مسابقة لاختيار الشخص الأكثر تناولاً لشطائر المغربية مع بعض جيرانه من التجار والأهالي. يضيف أنها "كانت وليمة بعض التجار مع بعضهم أو مع الموظفين أو الضيوف أو المارة أمام محالهم التجارية. بات كل ذلك ذكرى جميلة لا يبدو أنها ستتكرر".
ويستذكر أبو رامي أيام الدبوسي الأب والجد "حيث كانت الأيام عابقة بالخير، لكنها تلاشت مع هذا العهد الذي أطاح كل ما نتذكره في لبنان"، مشيراً إلى أنّ "أكلة المغربية باتت مقرونة بطرابلس، حتى بالنسبة إلى العرب والأجانب. لذلك، فإن الأمل معقود على من يعيدنا إلى الماضي، لا المضي بنا نحو مستقبل مجهول".